قد يتوقف العمر قليلاً عند مرحلة الطفولة ليزرع شتلة ألم صغيرة في تربة قلب صغير بريء ,كقلب هبة سرعان ماتنمو وتكبر مع الزمن كما كبرت جراح أم ماهر الجولانية الأصيلة ذات الستين جرحاً يتجدد في ترقب الأحباب من وراء شريط الآلام ,وتراكم فوق ربيعها العشرين أربعون خريفاً وهي تلملم الأوراق الساقطة من شجرة عمرها ومع كل ورقة دمعة على الأهل والخلان.
أم ماهر تتسابق إلى وادي الصيحات كلما سنحت لها الفرصة ومع كل فرصة يتجدد فيها العهد لمبايعة الأرض والهوية والانسان المشبع بالكرامة والغيرة على تراث الآباء والأجداد (جئنا نبايع الأرض والكرامة والأهل,الشوق إلى الأرض شديد والشوق إلى الأهل أقوى وأشد وأكثر مرارة) قالت أم ماهر وهي تذرف دموع الفراق لتحملها الريح عبر وادي الصيحات إلى من تحب ,لطالما حملت أم ماهر الحنين في قلبها كما حملته على لوحتها الحزينة التي تختصر أربعين عاماً من الفراق وأمل اللقاء, أم ماهر وهبة وجهان لعملة واحد,وجه هرم بنقش الستين ووجه نضر يحمل بضع سنوات,لكن الجرح واحد والهدف واحد والنداء للأهل واحد.
هبة لاتعرف جدها وجدتها,هي تطلب اللقاء وهو طلب بسيط ومشروع وحلال,هو حلمها الصغير الذي سيكبر مع الأيام والتي لوحت به من خلف شريط الأمل والألم فأبكت الكثيرين حتى أم ماهر التي لم تشاهد أهلها منذ أربعين عاماً الأمل يعشعش في القلبين رغم المسافات الشاسعة بين القلب الطاعن في السن والقلب المفعم بالحيوية,هذا ماجسدته نظرات هبة إلى الجولان القريب وكذلك أم ماهر كان الاشعاع يملأ كل مكان من مرآة وجهها التي تعكس جميع الوجوه المفقودة والغائبة.
لن تضيع نظرات من أشرف على وادي الصيحات هدراً وسدى ولن تذهب صرخاتهم أدراج الرياح, هذا يقين أم ماهر وهبة. لوحت أم ماهر بأربعين عاماً طواها الدهر لم تلثم فيها ثغور الأحباب ولم تشم رائحتهم المشتقة من عبق الأرض ورائحة كروم التفاح والعنب والتين فاختصرت عذابات هبة الطرية وأحلامها التي ستنمو مع الوقت..
نبتت في قلب أم ماهر مئات الكروم وأثمرت وماتت ثم أنبتها الحنين من جديد إلى أن وصلت إلى الستين ومازال الكرم الأخير نضراً كنضارة قلبها العجوز ومثمراً وخصباً كأرض الجولان العربي السوري.