وجامع وفرن لخبز التنور تقبع دار أهل شاعر الشعراء الأجمل وأمير اللفظ الحالم المصفى في القصيد والنثير وسيد الحزن الروحي الإنساني الشفيف وعطر الشعر الهائم الأليف (عبد السلام عيون السود), انطفأ شابا في الثانية والثلاثين من بنفسجاته بعد أن حصده منجل المرض في القلب, وخلف خلفه صغيرين وصغيرة ومجموعة معدودة من القصائد القصيرة المكثفة طبعت في كتاب عنوان (مع الريح) بعد مماته بأربعة عشر عاما عندما اختطفه الردى كان لي من العمر ست عشرة سنة, وكنت مولعا بقراءة أعماله الأدبية منذ تلك السن اليافعة لم أعرفه مبكرا إلا من خلال قراءاتي لأشعاره ومن صوره المنشورة في الصحف والمجلات الصادرة آنذاك, أما شخصيا فما حظيت بمثل هذه السعادة ثم علمت من عائلتي في مطلع صباي أن جدتي لأبي من أسرة (عيون السود) وأن آصرة من قرابة قريبة تربط بين الأسرتين.
فؤاده أعياه وفقره أضناه وحبه أدماه.. فمات كبرعم.. ومن محبي الشعر عامة وشعره خاصة لا يتذكر قصيدته الموجعة التي يودع بها الحياة قبل رحيله بخمس سنوات كأنه بنبوءة الشاعر وحدسه الجسدي يستشعر بوادر مرضه الواغل في قلبه:
أنا يا صديقة مرهق
حتى العياء فكيف أنت
وحدي أمام الموت..
لا أحد سوى قلقي وصمتي
والليل أعمق ما يكون:
سرى وأسفار بعيدة
وهناك في الأعماق
آهات وأشواق جديدة
أهفو فتلتفت الطريق
وتسأل النسمات عني
ويرود وجهك في الذهول
فيطمئن إليه ظني
غمر اللقاء جوانحي
بالورد أبيض والعبير
وكأن أنفاس الصباح
تخط كالرؤيا مصيري
وتميل بي الخطا إلى (القلعة) قلعة حمص التاريخية الشهيرة إلى حي (ظهر المغارة) ومن بعيد في هدوء الليل النائم وفي دبيب السكون الهاجع وفي صمت الشارع الخالي يطل على ناظري تحت الأضواء المتلألئة قرميد بيت صديقي الشاعر الراحل المبدع المبكر في حداثة قصيدته المفعلة على النظام العروضي الجديد (عبد الباسط الصوفي) وأتذكر مأساة حبه, مأساة موته, مأساة شعره غريبا عاش وغريبا سافر وغريبا مات.. كان نجما ساطع النور ثم غاب إلى الأبد كان حلما يبشر بالعطاء ثم انطفأ وأتذكر (س) حبيبته التي خلفها في (حمص) تشعر بالفراغ لفقده, وأصدقاؤه يحزنون لرحيله في أوج شبابه وأتذكر الآلهة الافريقية (مكادي) مرموزته ومعشوقته في ملحمة وداعه للحياة في مهجره, وأتذكر فيضا من الذكريات معه لا أحلى ولا أندى في مقدمتها أنه قبيل سفره في بعثته التدريسية إلى (غينيا) لتدريس العربية بعدة أشهر زار حمص الناقد المصري الكبير (محمد مندور) وزوجته الشاعرة (ملك عبد العزيز) وأراد هذا الضيف المحترم أن يتعرف أدباء المدينة وشعراءها, فكان لنا لقاء به في أحد متنزهات (الميماس) على ضفاف نهر (العاصي) وكان عبد الباسط واحدا من شهود هذا اللقاء الأدبي بل من عناصره الأساسية, وقد دار الحديث حول تاريخ حمص في الأدب العباسي وخاصة ديك الجن عبد السلام بن رغبان, ومن الشعراء قال فيها شعرا عبر شعرنا القديم بدءا من الجاهلية, وأذكر أن الدكتور مندور طلب من أركان هذا اللقاء وكنت واحدا منهم بل قد أكون أصغرهم سنا في تلك الآونة أن يلقوا على أسماعه شيئا من أشعارهم, فاستجابوا مستحبين طلبه واستجاب عبد الباسط بعد تردد وتلكؤ- وهو المفعم بالغرور فقد كانت شهرته قد بدأت بالسطوع عربيا آنذاك- عندما جاءه الدور, وألقى طاقة من قصائده نالت اعجاب الضيف الزائر وزوجته واستحساناً كما نالت تصفيق الحضور واعجابهم, كان الوقت عصرا وماء العاصي ينهمر بغزارة من شلال صغير بقربنا ويتناغم ايقاع تدفقه بايقاع إلقاء الشعر في هذه الجلسة الماتعة, ويضفيان معا على الجو الطبيعي الجميل جوا مستحبا من روحية الإبداع الجميل.
وإذا لم تخني الذاكرة فإن مندور- رحمه الله- قد طلب من عبد الباسط بالذات نموذجات مكتوبة من شعره (ولم تكن قد صدرت له أي مجموعة شعرية في كتاب) ووعده بإعداد دراسة نقدية عنه ولكنني لست أدري أكتب المرحوم مندور (مات 1964) هذه الدراسة ونشرها في إحدى مجلات أو صحف القاهرة أو لا..) هذا إذا الصوفي قد وافاه بها فعلا.. وما أظنه أرسل إليه شيئا.
وأتذكر أيضا في غابة ذكرياتي مع الصوفي التي ضمنتها كتابي عنه الصادر عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق عام 1983 سهرة لنا- أعددناها نحن ( أصدقاءه) احتفاء بتوديعه- قبل سفره إلى (كوناكري) بأسابيع على ضفاف الميماس في منتجع شعبي جلسنا فيه على المرج الأخضر كانت في الصيف وبمنزلة تكريم لصداقتنا به واعتزازنا بشاعريته.. آه.. ما أعذب وأحزن تلك الذكرى.. لقد افترشنا جانبا من بستان استأجرناه على مقربة من النهر في ليلة قمراء وأتذكر ذلك الإلقاء الخلاب الآخاذ الفريد من نوعه والمؤثر لقصيدته الرائعة (بيتنا) ينشدها أمامنا في أمسية الوداع:
يا بيتنا, يا خطرة الحلم
يا خفق أوتاري على النغم
يا قصة المأساة, لونها
صخب الجراح وشهقة الألم
لبناتك الحمراء قد جبلت
من أضلع محمومة.. ودم
وأكلت من أحداقنا لهباً
وشربت حتى دمعة الندم
كما أتذكر أيضا إلقاءه الرومانسي المفعم بالتلوين الصوتي لقصيدته الشهيرة (مأدبة للقمر) في تلك الليلة القمراء.. رحمه الله رحمة واسعة.. مات في مغتربه, وله من العمر تسع وعشرون سنة ودفن في مدينته (حمص).
ثم تلتوي بي الخطا وتتعثر من تعب.. الإرهاق يهد مفاصلي.. الأشجان في الحلق غصة, الدمع يلهث في العينين, وقشعريرة كالصقيع- على الرغم من شواظ أواخر الصيف ولهيبه- تسري في جسدي.. أأنا محموم.. أم أنه الحر يفعل بي أفاعليه.. أم هي وقدة الشعر وذكرياته طفحت في كياني واتقدت في روحي, فارتعشت لها جوانحي وضجت بها أضلاعي.. إنهم أساتذتي وأصدقائي, شعراء المدينة, سمفونيتها الحزينة, تاريخها النابض بنبض الحياة, شجرتها الوريفة الظلال, حفاظ لغة الضاد والأمناء على صيانتها, مدرسو الأجيال وصانعو العقول, ومهندسو الأذواق في مرحلة تعليمية وشعرية مبكرة من التاريخ الأدبي لقطرنا بدأت تعطي أكلها وثمارها بعيد جلاء المستعمر الفرنسي عن وطني الحبيب سورية بحوالي عشر سنوات. إنهم أوراد تزين قميص الزمان وترصع نجومه بشعاع الشعر السني البهي الخالد على الدهر الأزلي بروعة صياغاته الجديدة وبواكير أساليبه التجديدية.
وتهتف بي الخطا.. وتهزني: لا تتكاسل, دافع إعياءك بالإرادة, وأكمل دورة المدينة, ودورة القصيدة, وتوجها بشاعر (وسام الاستحقاق) صديقك الغالي الشاعر (وصفي قرنفلي) وأستجيب للهاتف وللهزة, وأتذكر وأنا أدرج على الطرقات الحجرية, في الأحياء العتيقة الحنونة متجها إلى بيته مرارة ست سنوات عجاف أقعدته طريح الفراش بداء العصبي الرعاش (الباركنسون) لا يريم من سريره ولا يخرج من غرفته, سجين مرضه, حبيس عضاله, وأذكر زياراتي اليومية له في الصباح والمساء خلال مأساة براحه المهلك, فهو -عدا عن كونه شاعرا كبيرا وحقيقيا- ابن حيي القديم الذي ولدت فيه وترعرعت بعدئذ.. وتوصلني الخطا الواهية إلى حارتي الأصلية التي غادرتها (صليبة العصياتي) ومنها أزدلف إلى حارته (الورشة) وبينهما من قرب المكان ما يجعلهما على مسافة متصلة لا يفترقان وأجد نفسي وقد قارب الليل بها على الانتصاف والانهاك قد هدني من سير مديد وحزن مرير أمام بيت شرقي عربي أثري الطراز مبني بالحجر الأسود والأبيض وأتذكر صباحاتي ومساءاتي وأنا أمر بجانبه يوميا لمدة عشرين سنة قبل مغادرتي حيي القديم ومنزل عائلتي العريق في قدامته وأصالته على الرغم من آثار الفقر على سكانه, الكائن في طلعة (سيباط القاضي) وأتذكر (قرنفلة) الشعر وهي تودع الشعر بعد أن أثقلها الذبول وحالت إلى رماد.. إنه آل الحياة وضلال الحلم بل فجيعة الروح المتعبة ورعب الجسد المرهق.. وأستحضر في حافظتي لشعر وصفي قصيدته الملحمية النفس وهي ترثي الإنسان, والوجود وعنوانها (سراب) وفيها يقول:
عصف اليأس بالبقية من كأسي
فأفرغت في التراب شرابي
ونفضت المنى فأهوين أنقاضاً:
إلى النار, يا سياط العذاب
آه.. منكن.. آه. أنتن دائي وجراحي وحيرتي واكتئابي
وتنهدت: مجهد بلغ الشط وأجهشت للضفاف الرطاب
أيها اليأس, أنت برء وعود مطمئن إلى مراح الشباب
يالفقري حرمت حتى من الدمع ومن رعشة الأسى في إهابي
السماء البنفسجية في قلبي, الظلام المشع يلفني في أعماقه.. جسدي يخذلني.. نفسي تغيم.. وهناك وجد في الأغوار.. وهناك فيض من ذكريات آخر حرار.
وتصل بي الخطا الفاترة إلى بيتي الاسمنتي في حيي الجديد ب (مساكن المعلمين) قرب ساقية (الري) أتناول القلم, وأخط هذه الأسطر العطشى لبوح أعمق ورحلة أطول.. أكتبها على بياض الوجدان وأنهض لأغفو مع الأحزان.
كتب هذا النص في مطلع تسعينيات القرن الماضي.