إذا ما شمل التغافل الأديب نفسه، ونتاجه جلّه أو كلّه، أو الفنّان عينه وأسلوبه، ليعاني هذا أو ذاك من الخيبة والمرارة والفاقة ربّما، وقد يموت ميتة جاهليّة!
ومن المفارقات المثيرة للمتابعة والدراسة والتحليل، أن يحلّ زمنٌ، بعد سنين قد تطول، يعود فيه الاهتمام بالنص الذي كان قد أُهمِل، واللوحة التي أشيح عنها النظر، ويكثر المتحدّثون عن هذا الإبداع، رافعين من قدر المبدع، الذي كان «فلتة زمانه»، لكنّ أهله ومعاصريه لم يفهموه، ولم يقدّروه حقّ قدره، ولم يستطيعوا قراءة ما بين السطور، ولم يتبيّنوا أهمّية البنى واحتشاد الصفحات أو تشكيلها، ولم يدقّقوا في ما خلف الخطوط والأشكال والألوان، ما يمكن أن يكون مدرسة جديدة في الإبداع، أو تنويعاً فريداً على جنس قائم.
قد تتغيّر أذواق الناس، وتتحوّل نظراتهم أو ردود أفعالهم حيال انموذج، أو شكل، أو أداء؛ سواء أكان ذلك طبيعياً مع توالي الأيام، وتوازي الأحداث أو تقاطعها، أو نتيجة توجّهات خفيّة وقرارات سريّة، للتحكّم بما يرتدون، أو يمارسون، ويقتدون.. وهذا ما يفسّر هيمنة لون محدّد، وشكل معيّن، على مستوى العالم، حتّى في ربطة العنق؛ ناهيك عن الشَّعر في الرأس والوجه، بتسميات مستوردة أيضاً عربيّة اللفظ أو أعجميّته..
كما قد تتغيّر أفكار البشر وقناعاتهم، إثر اكتشاف علميّ، أو تطوّر مشهود في الرؤى والقدرات والتقنيّات والاختبارات، كما في موضوع دوران الأرض حول الشمس الذي قال به «غاليله»، واُستهجن من قبل السلطات الدينية والمعتقدين بعكس ذلك، أو مسألة الهبوط على الكواكب، التي ما تزال تجد من لا يتقبّله اعتقاديّاً ونفسيّاً، أكثر منه مادّيّاً قابلاً للتعليل، وماتسبّبه الاكتشافات العلميّة من تحوّلات واشتغالات، والكوارث الطبيعية أو البشرية من خضّات واشتغالات وقناعات تتعدّد وتتجدّد.
لكنّ الأمر في موضوع الإبداع يختلف بشكل أو بآخر، وبنسبة أو أخرى؛ مع أنّ التغيّرات الكبرى الطارئة أو الدّوريّة تؤثّر في البيئة وظروفها وكائناتها، فأسباب التغيّر ليست محدّدة، ولاظاهرة، ولا تعكس بالضرورة أمراً أو قراراً، وإن صار من غير المستبعد مثل ذلك في هذا العصر، إذا ما أخذنا في الاهتمام ما يسهم به الإعلام. ومعروف أنّ مالكي الإعلام هم المقتدرون؛ سواء أكانوا سلطةً حاكمة عامّة، أو نفوذاً اقتصادياً وسياسياً خاصّاً..
إنّ جانباً من القضية له صلة مباشرة بالنتاج نفسه؛ ويمكن القول إنّ لأيّ عمل أو سلوك أو عنصر، قيمة يختزنها، تحتاج إلى من يظهرها، حتّى لو كان لسان حسود..!!
وما قد يكون ملائماً هنا، وفي هذا الوقت، قد لا يحظى بالقدر نفسه من الملاءمة في مكان آخر، أو زمن مختلف، أو في كليهما معاً. وقد لا يقتصر الأمر على هذه القيمة؛ بل على من يقوم بإظهارها: وعيه، أدواته، طريقته، هواجسه، غاياته.. فقد يكون وراء ذلك مقوّمون مسيّسون، أو عاجزون، أو قاصرون، أو فاشلون.. فيظهرون ما يريدون، أو ما يستطيعون، ويضيّعون منها الكثير قصداً أو عجزاً. وهناك من يستطيع بقدرة قادر، أن يشوّش السياق الذي تظهر فيه القيمة أفكاراً وأساليب وعناصر، كلمات ومصطلحات ومفهومات.. فتُستخدم لما لم يعرف عنها، وقد تَحتفظ العبارة بمعناها الأصلي لدى قسم من الناس، وتعني لدى آخرين شيئاً آخر، يختلف قليلاً أو كثيراً عمّا كانت توحي به، أو تشير إليه، حتّى لتكاد تسمع ذلك في الحيّز عينه، من قبل أناس لهم سويّة متقاربة أو متماثلة.. وقد يكون ذلك مقصوداً لإفقاد ما له قيمة في أذهان شريحة واسعة من الناس تلك القيمة أو بعضها، أو التشويش عليها، وبالتالي يصبح من الممكن التأثير عليهم بمفهومات مغايرة تقابل معايير جديدة للتقويم، وسيؤثّر ذلك -بلا شكّ، وبنسب مختلفة حسب الحصانة وأشياء أخرى- مع تكراره وهيمنته على ذائقة الناس وذهنيّتهم، فيتقبّلون ما كانوا يرفضونه، ويبتعدون عمّا كانوا يميلون إليه، ويهملونه!! فيموت لقلّة الاستخدام أو عسفه، ويغدو التعامل مع تلك العناصر مثار استهزاء أو استسخاف، وتلحق به ألفاظ وألقاب لا تسرّ ولاتريح، وقد تعيد دورة الحياة بعض ما كان بعد أزمنة وأحقاب، أو قد يصبح أثراً بعد عين، أو تراثاً يُحتفى باكتشافه، ويُعتدّ بالانتماء إليه!!
قد يكون مفهوماً مثل هذا التحرّك في جداول الحياة وطقوسها وفصولها؛ ولكن من غير القابل للفهم أو للقبول أو التوقّع، أن تحدث انقلابات في المواقف والمفاهيم والمعايير في أوقات متقاربة.. ولن يكون طبيعياً حدوث هذا، وبالتالي ليس حداثةً -بالضرورة- الانصياعُ إلى شروطه، ومتطلّباته، وليس تخلّفاً -لازماً- البقاء في كنف ما كان إلى وقت قريب؛ والعكس بالعكس يصحّ أيضاً. أمّا ما قد يكون مستغرباً ومستهجناً أن يصل الأمر إلى حدّ الرّجوع قروناً، ومحاولة أن تسود أقوال وأفكار وأشكال وطقوس عفا عليها الزمن، أو ارتبطت بحقبة ماضوية لها ظروفها وبيئاتها وعناصرها وسياقاتها المختلفة؛ بل المتناقضة. والغريب أن يقبل بعض النّاس ذلك، ويستقتلون في سبيله؛ هم الذين كانوا إلى وقت قريب يطالبون بالتحديث والعصرنة والتطوير!