نعم، إنها دمشق، المدينة التي جذبت بسحرها وألقها وتجدّد حضارتها الكُثير من رحالةِ وأدباء وشعراء وفناني العالم، وكان أحدهم مارك توين، الأديب الأمريكي الذي قام وبعد أن زارها في ستينيات القرن الثامن عشر، بوصفها في «الأبرياء في الخارج «الكتاب الذي سجَّل فيه كل ما شاهده خلال رحلته إلى بلاد الشام، وبلغةٍ رغم ما احتوته من نقدٍ وسخرية إلا أنها امتلأت بإعجابٍ كان واضحاً في مفرداته التي جمعها في كتاب، الكتاب الذي جمع فيه مقالاته التي كان يرسلها أسبوعياً لتُنشر في إحدى الصحف الأمريكية.
لقد كان كتابه هذا، من أهم ما اكتسبه من رحلته تلك، بل ومن أهم الكتب التي حظيت بانتشارٍ واسع، وبمضمونٍ كان أغلبه عن دمشق، تلك المدينة التي كرَّر القول عنها: دمشق لن تموت أبداً، السنوات هنا ليست إلا باللحظات، عشرات السنوات هي فتاتٌ غير ملموسة الزمن، دمشق هي نموذج للخلود.
ولد مارك توين في ولاية ميسوري من عام 1835 وهوالعام الذي ظهر فيه مذنب هالي الذي تنبَّأ توين بموته أثناء عودته مجدداً، وهوما حصل فعلاً وأكَّد نبوءته التي قال فيها: قدمت إلى هذا العالم مع مذنب هالي، وأظن أني سأرحل مع ظهوره مجدَّداً.
هذا ما تنبّأ به توين الذي عاش حياته كفاحاً بدأ مذ تُوفي والده الذي تركه وهوفي العاشرة من عمره. تركه يعارك الحياة ويترعرع على المعاناة التي شجعتَّه على حبِّ المغامرة والترحال، والتي جعلته ميالاً إلى النقد والسخرية والمشاهدات التي لعبت دوراً كبيراً في إغناءِ حياته الأدبية، وبتقديمها نماذج لشخصياتٍ أغلبها عاش الحياة معه أوقابله.
لكن، ولأن حلماً قديماً كان يلحُّ على مخيلته ويذكِّره بمقدار ما تشهَّى أن يعمل على قاربٍ بخاري في نهر المسيسبي، استجاب عاشقاً لذاك الحلم، بل للنهر الذي عاش وإياه قصة حبٍّ خلَّدها في أكثر من كتابٍ، ليكون أغرب ما فعله خلال عمله هذا، تغيير اسمه الحقيقي (صمويل لانجهورن) إلى (مارك توين) وهومصطلح بحري يعني (علِّم على اثنين).
وبعد انتهاء الحرب الأهلية التي شارك فيها، عمل في الصحافة وبدأت آثار المصائب المتكررة التي مرت بها حياته، تتَّضح وتترك أبلغ الأثر في كتاباته، تلك الكتابات التي تحوَّلت إلى روائية ومشحونة بالقسوة اللاذعة والسخرية..
هذا هومارك توين الأديب الذي، وبمقدار ما كره الحروب والقتال اللانهائي طمعاً بالمال، بمقدار ما هاجم سياسات أمريكا القمعية، وكذلك الثقافة الغربية والامبريالية الأوروبية والأمريكية، التي هجاها في مقالٍ خصَّصه لنقدها وعنوانه: «إلى الشخص الذي يجلس في الظلام»..
هذا هو«مارك توين «أديب أمريكا الساخر الذي ومثلما بدأنا بما قاله إعجاباً بدمشق، نختم بما قاله أيضاً عنها وفي الكتاب ذاته «أبرياء في الخارج» الذي نقتطف منه:
«إن دمشق ضربٌ من الخلودِ.. لقد شهدت إرساء مداميك بعلبك وطيبة وإفسوس، وأبصرت هذه القرى تتطوَّر إلى مدنٍ جبارة تدهش العالم بعظمتها، لقد عاشت دمشق كل ما حدث على الأرض ولا تزال تحيا، لقد أطلَّت على العظام النخرة لآلاف الإمبراطوريات، وستطلُّ على قبورِ آلافٍ أخرى توشك على الموت، ورغم أن سواها يزعم حيازة اللقب، فإنها ستظلُّ بحقٍّ المدينة الخالدة التي لا تموت».