« دريد لحام » في مسلسل «سنعود بعد قليل» ، صراع نفسي بين البقاء و الرحيل ، ينتصر بالنهاية حب الوطن و قرار البقاء ، و إن رحل سيكون رغماً عنه لظروف قاهرة واعداً بالعودة قريباً ..
مواطن درجة ثانية
كثيرون حزموا حقائبهم و حازوا بملء الإرادة على لقب لاجئ و مهاجر في نقطة ما على أطلس العالم، و نالوا مع سبق الإصرار على منزلة مواطن درجة ثانية متطفل على خيرات و مقدرات غير بلد ، بعضهم وضع قلبه في ثلاجة تطفئ نار الحنين إلى الزوايا والأرصفة و نسائم الهواء حتى لو كانت عاصفة ماطرة ، و تناولوا قبل الرحيل مسكناً طويل المفعول يخمد نار البعد و وجع الغربة الفتاك الذي ينهش بأرواح مهاجرة بعيداً عن الوطن .. وطن يهاجرونه طوعاً أو قسراً إلا أنه يأبى أن يهجرهم و يبادلهم الجفاء مهما بعدت المسافات و طال الزمان ..
ويتساءلون هل بقي هناك من يعانق أرضاً سورية متألمة نازفة ؟ ربع السوريين أم ثلثهم أم نصفهم من قرر أو فُرض عليه البقاء وسط سعير العنف .. هل لأنه لاخيار للفقراء لفقدان المال تكاليف سفر و إقامة في دول لا تعرف إلا لغة المال و الحسابات المصرفية؟ و أمام الأعداد المتسربة إلى مخيمات اللجوء و دول الجوار و بلدان المهجر على امتداد خطوط الطول والعرض ، بات اللاجئ السوري رقماً تحصيه المنظمات والهيئات لتصنف مأساته بالأقسى و الأعنف في تاريخ الإنسانية ، و ربما قريباً سندخل كسوريين موسوعة غينيس للأرقام القياسية باللجوء و التشرد على الكرة الأرضية ..
البعض يتوق للسفر خوفاً على روحه و سلامة أولاده و سعياً وراء رزقه فقد بابه ، و يحسد من ملك مالاً وفيراً لحياة كريمة خارج سورية و لو كان لاجئاً ، و كثيرون يتهامسون بلهجة التحسر تارة و الحسد تارة أخرى أنه لم يبق إلا كل فقير معتر ليعاني عنفاً و جوعاً و غلاء ، بينما الأغنياء والتجار لملموا أموالهم و نقلوا معاملهم وشركاتهم و شمعوا الخيط و هربوا على حد تعبير القائلين ، إلا أن التعميم ظالم للبعض ممن تعلق بوطنه و تشبث به بيديه و أسنانه ، و لم تنجح المغريات في دفعه للملمة وطنه و خنقه بحقيبة سفر مهاجرة يتنقل بها بين الحدود الشقيقة و مطارات الدول يستجدي لجوءا او مكاناً آمناً و مساعدات إنسانية عاجلة .
لن أسافر !!
إلى الدانمرك أو إلى إسبانيا أو تركيا أو حتى إلى قطر .. خيارات قدمت ل ( أحمد ) ابن حلب الشهباء من قبل أقاربه و أهله لينجو بعائلته من جحيم و نار تكاد تحرق حلب و أهلها موتاً وجوعاً و ذلاً ، فالعنف يطوق حياتهم وخطر الخطف محتمل و الحصار يطبق على أنفاسهم و أمعائهم الخاوية ، إلحاح تلو الإلحاح و إغراء وراء الآخر من تسهيلات مادية و معنوية ذهبت أدراج الرياح أمام تعلقه بمدينته و إيمانه الراسخ بقضاء الله و قدره الذي لا مهرب منه أبداً و لو كان على عروش مشيدة ، فالموت يأتينا حيثما ذهبنا .
لن أسافر .. لن أهاجر .. لن أصبح لاجئاً .. كان قرار أحمد رغم توقف عمله كصاحب مطعم بسبب الحصار الاقتصادي الذي فرضته المجموعات المسلحة على مدينة حلب منذ ما يقارب الستة أشهر .. لا ماء و لا كهرباء لا طعام و لا وقود و لا أدنى شيء من شروط الحياة الإنسانية .. وشراء بعض المواد الغذائية كان يتطلب وضع الروح على الأكف للذهاب إلى مناطق خطرة تسيطر عليها المجموعات المسلحة التي احتكرت كل شيء من متطلبات الحياة من خضار و فواكه و خبز و وقود لتدار به المولدات في ظل انقطاع الكهرباء ، فمقابل بضعة كيلوغرامات من مواد لإعداد الأطعمة قد يكون مقابله القنص أو الاعتداء من مسلحين لا يفرقون بين شيخ و شاب و بين المحرمات .
نار بلدنا و لا جنة الآخرين
يقول ( أحمد ) لن نستطيع أن نهرب من أقدارنا أينما ذهبنا و خوفي على عائلتي غير مبرر لأهرب بهم كما فعل الكثيرون ، سافروا و ظنوا أنهم سيرتاحون من القصف و الاشتباكات و مخاطرها ، إلا أنهم سرعان ما ندموا على مغادرتهم لبلدهم ، و اشتاقوا لوطنهم و باتوا على قناعة أن نار بلدنا و لا جنة الآخرين ، ذهبوا بأجسادهم و بقيت أرواحهم معلقة ببيوتهم و أحيائهم لا يجدون أجمل منها ولو أتيحت لهم القصور ، عيونهم ما زالت تترقب خبراً من بلدهم تنقله نشرات الأخبار أو قادم يحمل رائحة البلد .
حال أحمد حال الكثيرين ممن ملكوا المال و أتيحت لهم الفرص للمغادرة و البدء بحياة جديدة آمنة بعيداً عن الخوف و الرعب و الموت ، إلا أنهم أبوا إلا البقاء في أحضان وطن يعاني مخاضاً طال أمده و اشتد ألمه ، آثروا مساندة سوريتهم التي أحبوها في أقسى أوقاتها ريثما تتم ولادة سورية الآمنة و جلاء آخر إرهابي ، و ها هم يمارسون أشرف أنواع المقاومة في بقائهم رغم الاحتمالات القاتلة ، وفي ممارستهم لأعمالهم رغم الصعوبات و التحديات ، وفي تحدٍ لمشاعرهم في خوفهم على أبنائهم ، ليكون البقاء بمثابة نضال يومي لمواطن سوري يستحق التقدير و الإعجاب .