قد تبدو الحكاية السابقة على بساطتها، وعمقها، وكأنها تتعلق بدروس الرياضيات أو سواها، وهي كذلك فعلاً في بساطتها، أما في عمقها فهي تلخص مشكلة في آلية التفكير ، تلقي بظلالها الموحشة على قطاعات واسعة من مجتمعنا، وقد تعطي بعض التفسير لتعثرنا وتخلفنا في مجالات متعددة، لأنها باختصار تلغي العمل المؤسس، والمفهوم الجماعي لمصلحة الخيار الفردي بكل ما يرافقه، في معظم الأحيان، من أهواء وأمزجة ورؤية أحادية الجانب.. وهي في جوهرها تنطلق من روح الأنانية والفردية، التي تجعل صاحبها يعتقد أنه ألأهم والأعلم، وإذا تواضع اكتفى بالاقتناع أنه المنقذ والملهم..
يعرف كثيرون شخصاً في وسط معرفي ظل يطمح سنوات طويلة لترؤس هيئة بذاتها، ويبذل كل جهد يمكنه من تحقيق حلمه، فلما تحقق ما تمنى وأمل وسعى، واعتقد الجميع أنه سيحقق نهضة في موقعه الحلم، بحكم ما افترضوه من مشروع طموح يملكه مستنداً لمعرفته (المفترضة) بمشاكل الموقع، وإحاطته بسبل تطويره، فاجأ الجميع حين صب كل جهده باتجاه وحيد، هو تهميش عمل سلفه، وتهشيم ما حققه، وقد نجح بذلك (نجاحاً عظيماً)!! فلما أبعد عن الهيئة تركها وقد عادت سنوات طويلة إلى الخلف، بينما غاب هو في مجاهل النسيان، فإن ذكر مصادفة بعد ذلك، كان ذكره مرفقاً بكل مشاعر الإدانة والاستخفاف..
ربما كان الشخص السابق ،كما يقول عارفوه، يتملكه شعور بالنقص تجاه سلفه، لكن ماذا يمكن القول عن آخر، حلم بدوره بموقع وحصل عليه بعد سنوات طوال، ولم تكن ثمة مشكلة بينه وبين سلفه، ومع ذلك فقد أهدر جهده ووقته في تفحص وثائق الهيئة باحثاً فيها عما يدين سلفه، دون أن يردعه عن ذلك تنبيهات رؤسائه المستمرة، بأن هذا الأمر شأنهم وليس شأنه، وأن مهمته المستقبل وليس الماضي، حتى أعياهم عناده فتخلى عنه أكبر الداعمين له، وخرج بدوره من الهيئة محاطاً بأسوأ الانطباعات، التي يفترض المنطق أن تحول بينه، وبين تكليفه بأي عمل في المستقبل يتطلب شخصاً متوازناً لا تحكمه الأهواء الشخصية..
مثل هاتين الحالتين تتكرران بوفرة مرضّية في مجتمعنا، وقد حال حسن الحظ بين حالة ثالثة مشابهة، وبين تسلمها إدارة موقع ثقافي، عندما تحدث صاحبها عن مشروعه الذي «إن لم يتقاطع مع بعض الأشخاص فإن لا مكان لهم في الهيئة» فإذا بـ (بعض الأشخاص) هؤلاء هم كل خبرات الهيئة وكفاءاتها.. ولو كان لصاحبنا أن يصل إلى رئاستها ،ويحقق مشروعه الشخصي، لكانت اليوم هباءً منثورا..
المشكلة في البدايات المتكررة، و(الريادات) غير المسبوقة، أنها تحول دون الإفادة مما سبقها، وتحرم الإفادة من مكاسب التراكم الذي يحقق التطور المستقر، وأنها أيضاً، وفي الغالب، تترجم عقلية لا تجد أهميتها إلا في الانتقاص من أهمية الآخرين، ولو أدى ذلك إلى تدمير عمل ثمين، أنفق لأجله الكثير من الجهد والمال..
هذا إذا لم نتحدث عن ذهابها في اتجاه مغاير لكل ما هو صحي .. وصحيح..