تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


الطب النفسي..علم يصارع العرافات والمشعوذين

مراسلون وتحقيقات
الأحد 25/9/2005
عقبة زيدان

تقول الحكاية بأن الأب طغى وتجبر على كل أبناء قبيلته, باعتباره سيداً مطلقاً لها.

لقد استأثر بكل النساء والملذات الأخرى, واستولى على حصة التفكير الكاملة. وحين ضاق الأبناء ذرعاً به, وشعروا بفقدانهم لكيانهم, ما كان منهم إلا أن تآمروا عليه وقتلوه, ثم التهموه حتى آخره, دون أن ينسوا أن يشربوا دماءه التي كان يهددهم بأنها مقدسة.‏

استعاد التاريخ نفسه مرة أخرى, وجاء الإمبراطور الروماني كايوس, وهو يحمل نفس النموذج المرعب. يقيم كايوس سفاحاً مع أخته, ويهيم بها, إلى حد الجنون, وحين تموت, ينقلب إلى رجل انتقامي من كل من حوله. يتخيل نفسه يصارع الآلهة ويفضل نفسه عليها. يبدأ بقتل المقربين منه من الوزراء, ثم يستبيح نساءهم وبناتهم. يجتمع عليه أبناء إمبراطوريته ويقتلونه. ( أرخ ألبير كامو هذه القصة التاريخية في مسرحيته الشهيرة كاليغولا). تتساوى جريمة القتل هذه مع جريمة القتل المركزية في التاريخ, وهي تحمل نفس الأسباب والنتائج.‏

وبشكل جميل, يستطيع الدكتور فرويد تسخير هذه الأسطورة لصالح تحليله النفسي, ودفعها إلى الواجهة في تحليله للاشعور الجمعي. وحسب تصورات فرويد, يقع الأخوة, بعد قتلهم لأبيهم, تحت سلطة مشاعر غامضة. فهم لا يزالون يشعرون بحقدهم على سلطة الأب, ومع ذلك, فقد شعروا بعد الجريمة, بمشاعر قرابة رقيقة, جعلتهم يندمون على هذا الفعل, ويودون التكفير عن ذنبهم. ولهذا فقد قاموا بتجسيد صورة الأب على هيئة طوطم, وهم يضفون عليه هالة من التقديس. وأقروا, في مجتمع القطيع هذا, عدم السماح بسفاح القربى, درءاً لسفك الدماء, بسبب المنافسة بين الأخوة على الجلوس مكان الأب.‏

وطبعاً, حين لم يعد الإنسان يتمتع بتلك الوحشية الظاهرة نظراً لتنظيم حياته, فقد وجد أن القتل والالتهام, عملية ما تزال تسيطر على اللاشعور الإنساني, ولكنها تظهر على شكل مقاومة للسلطات الجائرة, باعتبارها تمثل سلطة الأب. ثم لا ينسى د. فرويد أن ينوه إلى أن هذه الجريمة ضد الأب, كان لا بد لها أن يتم تكفيرها, لإقامة مصالحة تاريخية, عبر قتل أحد الأبناء.‏

ومن هنا يتم خلق التابو الاجتماعي الأخلاقي, رغم أن الإنسان في أحلامه يتواطأ مع لاشعوره الجمعي, ولكن الواقع يكبته. وهذا الكبت, يولد حالة من عدم التوازن, بين ما يرغب الإنسان وبين التابو الاجتماعي الأخلاقي.‏

عودة إلى الحكاية!‏

وفعلاً, فقد عادت الحكاية على لسان شاب, لتؤيد فكرة فرويد. فاجأني شاب في الثلاثين من عمره, بقدرته على المصارحة, فقال: (لو لم يمت أبي لكنت قتلته). كانت عيناه تؤكدان أن حقداً دفيناً قد سيطر عليه, ولم يهجره, تجاه ذلك الرجل الميت, الذي انتزع منه كل شيء, حتى قدرته على التفكير, ودفعه إلى ارتياد الأطباء النفسيين, ما جعله منبوذاً بنظر الناس, الذين ما يزالون ينظرون إلى المريض النفسي نظرة شفقة وريبة: (أصبحت شخصاً مختلاً في عيون كل الذين أعرفهم. وفي مقدمتهم أهلي وأصدقائي), وصمت قليلاً ثم أضاف: (معهم كل الحق).‏

أثناء مرضه النفسي, كان الشاب يصرح ببساطة أنه مخترع القنبلة الذرية التي بفضلها سيتم تدمير العالم. ثم يتباهى بأنه الوحيد الذي هزم الأسطورة محمد علي كلاي. أما بالنسبة لتحطيم جدار برلين, فلم يكن هذا الأمر سوى نزوة قام بها في لحظة غضب.‏

نشأ الشاب في بيئة ميسورة, لكن الأب كان بخيلاً جداً, يحاسب أولاده على كل شيء حتى على تنفسهم. لم يكن سوى فزاعة لأولاده. ويستطيع بنظرة واحدة أن يجعلهم يتجمدون في أمكنتهم (لم أشعر يوماً بأن هذا والدي. فمن غير الممكن أن يكون أي أب في العالم بهذه القسوة!). وحين كان الأب يربط ابنه إلى السلم الخشبي, ويبدأ بضربه, كان الجميع يقفون صامتين, دون أن يتجرؤوا على الاعتراض بكلمة أو بنظرة. وأخيراً, وقع الشاب في براثن المرض النفسي. ورغم هذا لم يكترث الأب, بل أصر على عدم دفع المال لمعالجته, وبقي على معاملته السابقة معه.‏

استطاعت الأدوية أن تخفف من هذا الفصام المرضي, مع وجود طبيب معالج يخضعه لجلسات نفسية دائمة. لكن للأسف, لم يشف الشاب تماماً (ما زلت منذ ثلاثة عشر عاماً أداوم على الأدوية. وحين أتأخر على الدواء قليلاً أشعر بعدوانية تجاه بني الإنسان جميعاً).‏

ماذا يقول الطب النفسي?‏

يدخل هذا الفصام ضمن حالات الذهان, ويقول الدكتور بيير شنيارة بأن مرضى الذهانات نادراً ما يتوقفون عن العلاج الدوائي, حتى بعد توقف جلسات المعالجة النفسية, فهم كمرضى الضغط والقلب, يصبح الدواء أساسياً لحالاتهم, إلا ما ندر. ويضع الدكتور شنيارة نسبة 15% من الحالات الذهانية التي تشفى ولا تحتاج لأدوية, وهي الحالات البسيطة. وحين يذكر هذه النسبة, فإنه ينتبه إلى الأمر ويتابع, ليكون دقيقاً: (الإحصاء صعب, لأن المريض لا يعود لمراجعتنا, وربما يكون قد ذهب إلى عيادة أخرى).‏

في حين ترى الدكتورة مياسة سعود (مديرة مشفى البشر للأمراض النفسية والعصبية)‏

بأن الدواء لا يلغى نهائياً. ثم أتت بنفس المثال عن مرضى الضغط والقلب, الذين في حال توقفهم عن أخذ الدواء سيعود ضغطهم للارتفاع. ويرى الدكتور سامر جهشان, بأن مرضى الذهانات يحتاجون إلى معالجة طويلة الأمد, مما يدفع بالطبيب المعالج إلى تخفيف الجرعات الدوائية.‏

غسيل موتى‏

تقول الحكاية: امرأة متزوجة, لديها خمس بنات, ولم تنجب صبياً واحداً. ونظراً لعقدة الرجل في إنجاب صبي يحمل اسمه, يقوم الزوج بمضايقتها, ومن ثم بالزواج من امرأة أخرى. دخلت الزوجة في مرض نفسي, وتركت البيت لتشرد في المدن. وصلت أخيراً إلى أحد ضواحي دمشق. ولأنها جميلة ولا تزال شابة, فقد استغل رجل من المقتدرين مرضها النفسي, وأخذها إلى بيته وأنجب منها طفلاً, دون عقد زواج. وحين ملَّ من الجنس معها, منحها هدية لأحد أقربائه, وهو مريض نفسي أيضاً.‏

عاشت المرأة المريضة مع الرجل المريض, وأنجب منها ثلاثة أولاد, ومن دون زواج أيضاً. كان البيت الذي يسكنان به يعبر عن مدى البؤس والفقر الذي يعيشانه. وحين تفاقم مرضها النفسي, ولم يعد يستطيع الزوج احتمالها, فقد أخذها إلى المشفى.‏

وأسوأ ما في الأمر, أن الأولاد أصبحوا في سن المدرسة, وهم مكتومون, وغير مسجلين في سجلات الدولة, ما يجعلهم غير معترف بهم. وحين أصبحوا في سن ال 18 وجد القضاء حلاً لهذه المعضلة, وتم تسجيلهم باسم الرجل المريض.‏

الزوج لا يعمل, فاضطرت الزوجة إلى أن تعمل في غسيل الموتى لتعيل أولادها. وأمام هذا الواقع المرعب صارت تراجع المشفى باستمرار.‏

متى يأتي دور المشفى النفسي?‏

وجود المشافي النفسية أمر ضروري, فالعيادات وحدها لا تكفي. وهذا لا يعني أن تكون المشافي مأوى دائماً. فعالمياً, فكرة المشافي - كما يقول د. بيير شنيارة - تنحصر في المجال الإسعافي والإقامة المؤقتة, إلى أن يعتدل وضع المريض, وتوضع له الخطة, ويكمل علاجه في المنزل.‏

وتأتي ضرورة المشافي في الحالات المتأزمة. فحين يكون المريض مزعجاً لأهله وللآخرين, من البديهي أن يتوفر له جو يستوعبه ويحتمل متطلباته. وعلى أهل المريض أن يدخلونه إلى المشفى إذا رفض العلاج على يد طبيب نفسي, وإذا كان في حالة تستدعي ذلك. المنزل لا يقدم العلاج. وما زالت المشافي النفسية تلقى رفضاً من المرضى, وهناك صعوبة في تقبل المريض لدخول المشفى. لذلك فإن مديرة مشفى البشر للأمراض النفسية والعصبية د. مياسة سعود, ترى أن التعامل مع المريض كنزيل, هو ما يخفف من خوفه ورفضه للمشفى. وتتابع: (نقوم بحوار مع المريض لنعرف ما هي متطلباته. وبالإضافة إلى العلاج, فإننا نوفر له حقه في القيام بنشاطاته وهواياته المختلفة). وأضافت بأن للمريض حق العلاج وحق المتابعة. إنه كأي مريض آخر, له حق التأهيل ليعود إلى التلاؤم مع محيطه.‏

الإرهاق المادي‏

يقول الدكتور بيير شنيارة بأن المريض النفسي يحتاج إلى عدد كبير من الجلسات والمراجعات, فلذلك تكون المصاريف المادية كبيرة نوعاً ما, وهذا ربما يكون سبباً في عدم متابعة المرضى لجلساتهم. أما الدكتورة مياسة سعود فإنها ترى بأن المريض يذهب إلى أكثر من طبيب عضوي, ويدفع الكثير من المال, وفيما لو أنه اتجه مباشرة لطبيب نفسي, فهو يوفر على نفسه كثيراً من التكاليف والتعب (فالمريض النفسي يتقبل أن يكون أي شيء إلا أن يكون مريضاً نفسياً). فيما حدثني أحد المرضى بأن الإرهاق المادي هو الذي جعله يتأخر عن المتابعة في الجلسات. فهو من جهة يدفع ثمن الأدوية مبلغاً لا يتحمله, إضافة إلى مراجعة الدكتور الشهرية أو النصف شهرية.‏

فعالية العلاج الدوائي وضرورته‏

يكون العلاج الدوائي في المرحلة الأولى, في الحالات التي تستدعي ذلك. يدخل المريض, فيستمع منه الطبيب لحالته, ومن ثم يستمع من الأهل. ويضع العلاج الدوائي المناسب, إذا احتاج المريض لذلك. ففي أعراض الهياج يبدأ الطبيب بالسيطرة على المريض دوائياً, ليصبح إنساناً قابلاً لأن يقوم معه بحوار. العلاج في هذه الحالة يحتاج إلى تهدئة المريض في المرحلة الأولى, ومن ثم يكون العلاج النفسي مرحلة ثانية. ويقول د. سامر جهشان: )معالجة المريض النفسي هي معالجة شاملة له. بمعنى أن المريض يحتاج إما إلى معالجة دوائية + معالجة نفسية, وإما إلى معالجة نفسية فقط, بدون استخدام الأدوية, وهذه المعالجة تستخدم في اضطرابات الشخصية. هنا الدواء لا يفيد, ويكتفى بالعلاج النفسي(. وفي الاضطرابات الذهانية, مثل الهجمات الذهانية الحادة والفصام, تكون المعالجة الدوائية أساسية, وحتى الاكتئاب يجب أن يبدأ بالمعالجة الدوائية.‏

يفصل الدكتور شنيارة الحالات التي تستدعي الدواء والتي لا تستدعيه: )إن أمراض القلق غالباً لا تحتاج إلى دواء. أما حالات الاكتئاب الأساسي فنبدؤها بالدواء. وفي حالات الاكتئاب غير الشديد يكون العلاج الدوائي كعلاج داعم للمعالجة النفسية. وكل أنواع الذهانات تحتاج إلى الدواء أولاً ثم إلى العلاج النفسي ثانياً(.‏

الطبيب والمريض في كفة واحدة‏

يؤكد المختصون أن المريض النفسي قادر بعد العلاج أن يعيش بشكل طبيعي. فخلال ال (50) سنة الأخيرة تطور الطب النفسي, وأصبحت له علاجات فعالة. ويرى د. شنيارة أن النظرة العامة للطبيب النفسي, والمريض النفسي أيضاً, يجب أن تتلاشى, لتحل محلها نظرة أكثر واقعية. فالخوف من العيادات النفسية, يجب أن يزول, لأنها هي الأمل الوحيد للشفاء.‏

وبالنسبة إلى وزارة الصحة في سورية, يقول د. بيير: (نحن في وزارة الصحة, وضمن الخطة الخمسية القادمة, وضعنا مشروعاً لتطوير خدمات الصحة النفسية, على صعيد القطر. ووزارة الصحة مهتمة بهذه الناحية. فلقد وجدنا, من خلال الإحصائيات, أن عدد الأشخاص الذين يعانون من أمراض نفسية, يصل إلى مليون ونصف تقريباً. ومن خلال هذه الإحصائيات صرنا نلمس فقداناً للسنوات الحياتية المنتجة بسبب الأمراض النفسية. وإذا نظرنا إلى هذا العجز الذي تسببه الأمراض النفسية, نجد أنه يأتي بالدرجة الثانية بعد أمراض القلب وحوادث السير. وطبعاً يدخل في الحسابات تكلفة العلاج).‏

غالباً ما يتعامل الناس بغرابة مع المريض النفسي والطبيب النفسي أيضاً, ويطرحون أسئلة أكثر غرابة. والأطباء النفسيون كما يرى د. شنيارة, محاربون أكثر من زملائهم الأطباء في باقي الاختصاصات. وتابع قائلاً بأن نظرة الرفض والاستهجان سائدة تجاه الطب النفسي, وجاء بمثل: (في عام 1986 نص قرار في وزارة الصحة على إحداث عشرة أسرة في كل مشفى للأمراض النفسية, ولكن هذا القرار لم يطبق, بسبب محاربة الأطباء الآخرين الذين كانوا يقولون: ماذا? هل سنقلبها مشفى مجانين?).‏

وإذا كان الأطباء, هم أول المحاربين لموضوع العلاج النفسي, فكيف للطبيب النفسي أن يقنع الآخرين العاديين الجاهلين بجدوى العلاج النفسي?‏

تعالج المشافي النفسية مرضاها بفعالية أكبر من العيادات النفسية, ذلك لأن إمكانيات المشفى وإمكانية المكوث فيه لفترات أطول, تجعل إمكانية الشفاء أكبر. وتقول د. مياسة سعود: (هناك خجل من مراجعة المشفى النفسي. لذلك غالباً ما يذهب المرضى إلى العيادات النفسية, ولا يأتون إلى المشفى إلا بعد تحويلهم من قبل الأطباء النفسيين. ولكن هناك حالات نجد فيها أن المرضى النفسيين يأتون بشكل طوعي).‏

في الماضي كان المريض النفسي يأتي إلى العيادة النفسية مربوطاً بالسلاسل, أما في هذه الأيام فيمكننا أن نرى كثيراً من المرضى يراجعون المشفى لوحدهم, آملين بالشفاء من أمراضهم. وهذا لا يمنع ولا يلغي بأن هناك خجلاً من المراجعة والمجاهرة بالأمر.‏

هل الطبيب النفسي‏

مضطهد ومريض نفسياً?‏

سألت الأطباء النفسيين هذا السؤال: ما الذي يجعل الناس ينظرون إلى الطبيب النفسي بأنه مريض نفسياً? أجابني الدكتور شنيارة: (إن الناس دائماً ينطلقون من المثل القائل (من عاشر القوم..). نحن والمرضى النفسيون نلاقي نفس النظرة من الناس.. كلانا وصمة عار). وأجابت الدكتورة مياسة سعود: (إن الناس يظنون أن كثرة احتكاك الأطباء النفسيين بمرضاهم قد جعلهم مرضى هم أيضا). وأضافت بأن الطبيب النفسي هو الوحيد الذي حين يكون في مكان ما, لا أحد من مرضاه يرمي عليه السلام. بينما الأطباء الآخرون فنرى أن مرضاهم يركضون نحوهم للسلام عليهم. يوافق الدكتور بيير على جزء من هذا الرأي ويقول: (هناك مرضى تكون لهفتهم قوية نحونا ويسلمون علينا. وهناك آخرون يكونون حذرين, ويتحاشون السلام علينا والكلام معنا). أما الدكتور سامر جهشان فيؤكد قائلاً: (كل مريض حالة خاصة, ويختلف الأمر من إنسان إلى آخر. شعور الخجل من الطبيب النفسي ليس في بلادنا فقط, بل في كل العالم. الخوف من الطبيب النفسي, وتحاشيه, ليس خاصاً بالشرق الأوسط وسورية. وربما يكون أشد في بلادنا نتيجة لعدة عوامل).‏

تحت الدولاب‏

استطاع الروائي الياباني الأشهر يوكيو ميشيما من جعل عملية انتحاره تهز العالم, حين قرر أن يكون انتحاره إعلان رفضٍ لدخول الجيش الأمريكي لبلد الإمبراطورية العظيمة. ولكن ما الذي جعله ينتحر?‏

يؤكد علم النفس بأن واقعة الانتحار هي ضرب من فقدان الثقة بالواقع الإنساني, وضرب من الهروب الكئيب خارج العالم. وهذا ما حدا بميشيما إلى إنهاء حياته, حين أصابه اليأس من التغيير, فوضع نهاية لحياته, كتأكيد على حضور العدم, أمام واقع متحقق ينزلق, وأمام عدم يضيِّق الخناق عليه.‏

هذا التحليل النفسي, يكاد يكون منطبقاً على بطل رواية (تحت الدولاب) لهرمان هسه, ذلك الشاب الذي ألقى بنفسه في النهر, بعد أن دفعه شعوره بفقدان الحرية, وببؤس الواقع, إلى فقدان الأنا وإلى الانفصال عن الواقع, ليجد نفسه أخيراً وقد انجرف مع التيار.‏

تعرفت إلى شخصية فريدة من هذا النوع. صرح لي شاب بمرضه, غير خجل من مراجعة طبيب نفسي, وهو على قناعة بأن المرض النفسي لا يختلف عن المرض الفيزيولوجي. أصيب هذا الشاب الحالم بالقلق, مما جعله يقع في اضطراب ويهجر النوم. لقد كان العالم بالنسبة إليه شراً فقط, حاول رفضه, ولكنه لم يجد طريقة. فاندفع في التفكير بالانتحار.‏

أقنع نفسه بالذهاب إلى طبيب نفسي. كان الطبيب الأول نزقاً, وعصبياً, ترك أثراً سيئاً عند الشاب في مراجعة طبيب, وقال لي: (صرت أقول في نفسي: إذا كان الطبيب النفسي هكذا, فكيف سيعالج المرضى?). بعد فترة ذهب إلى طبيب آخر, بناء على نصيحة صديق. فوجد أن هذا الطبيب أكثر هدوءاً ورزانة. باشر له الطبيب بجلسة أولى ووصف له دواء, لكن شيئاً لم يتحسن, بل زادت أموره سوءاً, وصار أكثر عصبية, حتى إنه أصبح يشعر بمرض فيزيولوجي. وحين أخبر الطبيب, أجابه: (هل تريد أن يكون الدواء بلا أية أعراض جانبية? اذهب فأنت حر في أن تأخذ الدواء أم لا).‏

غادر الطبيب الثاني, وسار في شوارع دمشق ينظر إلى اللوحات, فقرأ اسم طبيب, فدخل إليه فوراً. ركز الطبيب الجديد على الجلسات النفسية مترافقة مع الدواء, وهيأ مريضه لتفهم الحياة بشكلها الواقعي. فهم المريض أن مرض القلق الأساسي نشأ عن ازدياد الآلام السيكولوجية والاضطرابات الفيزيولوجية المرافقة, وعن الميل إلى نظرة متشائمة إلى الوجود. عرف أن ما أصابه هو ميل اكتئابي وشكٌّ في كل شيء, وضرب من النفور إزاء العمل والبيئة والذات. (وجدت أنه عليَّ أن أتحدث إلى أحد, أن أنفتح على شخص, لأستبعد غواية الانتحار).‏

ضحيتا سفاح‏

قصتان في الاغتصاب المبكر, أو لنقل في سفاح القربى. والضحيتان هما فتاتان, الأولى (ر) اغتصبها أحد أقاربها في عمر 7 سنوات, وحين قصت الحكاية لوالدتها, أنبتها الوالدة ومنعتها من الكلام أمام أحد, درءاً للفضيحة. حاولت (ر) التعايش مع قدرها, متحاشية التعامل مع الجنس الآخر, باعتباره غولاً مرعباً, إلى أن دخلت الجامعة, وتعرفت إلى شاب وأحبته. لكنها لم تتجرأ أن تخبره بقصتها خوفاً من ردة فعله. أنجبت منه ولدين, واستطاعت أن تكون متوازنة في حياتها إلى أقصى حد. وحين سألتها عن سبب عدم مراجعتها لطبيب نفسي, رفضت ليس لعدم قناعتها بالطب النفسي, بل لأن (المجتمع لا يرحم, وسيطلق عليَّ لقب (مجنونة)), وهي الآن سيدة محترمة, وقادرة أن تتعايش إلى الآن مع مشكلتها. كانت تبكي بحرقة وهي تقص عليّ قصتها, ورجتني ألا أذكرها أمام أحد, لأن ذلك سيدمر حياتها.‏

الضحية الثانية, هي فتاة في السابعة والعشرين من عمرها, اغتصبها قريبها وهي ابنة ست سنوات. كان والدها مسافراً, لذلك فقد أخبرت أمها, التي حارت ماذا تفعل مع قريبها, فاضطرت إلى زجر ابنتها وتنبيهها أن تبقي الأمر سرياً. وحين عاد والدها من السفر بعد ثماني سنوات, كان الفتاة (م) قد أصبحت في سن المراهقة, إلا أنها لا تزال تحمل في نفسها جرحاً كبيراً لن تنساه. أخبرت والدها بالأمر, فلم يستطع فعل أي شيء سوى منع القريب من الدخول إلى المنزل فقط, وأبقى الأمر قيد الكتمان: (تأزمت حالتي النفسية, بسبب عدم قدرة والدي على فعل شيء, إضافة إلى أنني شعرت بأن أبي شخص غريب, وقد أتى خصيصاً ليسرق أمي مني).‏

تتذكر, أنها حين كانت في السابعة عشرة من عمرها, وقد تفاقمت حالتها, رفضت (م) في البداية رؤية طبيب نفسي: (كان الطبيب النفسي يوحي لي بأني مجنونة, وهذا ما جعلني لاحقاً أقوم بجلساتي بسرية تامة, وقد حافظت على هذه السرية). فشلت (م) في المداومة عند أول طبيب نفسي. ففي حين كانت تحدثه عن مشكلتها, كان هو ينهرها ويوبخها. إضافة إلى ذلك فقد أعطاها دواءً أدمنت عليه. وقالت تصفه بحنق: (كثر هم الذين قالوا عنه إنه فهمان, أما أنا فلم أجده كذلك. لقد جعلني أتوتر وزاد من عصبيتي. ما دفعني لرمي الدواء ثم رفض مراجعته).‏

التحليل النفسي يعتمد على الكلام والحوار مع المريض, لمساعدته بحلول للخروج من مأزقه. وقد وجدت (م) طبيبها الهادئ والرزين, لدرجة أنها وثقت به إلى حد كبير. واستطاع أن يخفف من حدة مرضها, وتبدأ بالتأقلم مع محيطها شيئاً فشيئاً. واستطاع تخليصها من نظرتها إلى الرجل كوحش كاسر. وصارت تتطلع إلى كشف كنه الرجال, وسؤال مركزي يراودها: (ما الذي جعل قريبي يفعل بي هذا?)أنهت دراستها الجامعية وعملت في وظيفة محترمة, وهي لا تزال إلى الآن تداوم على جلسات نفسية عند نفس الطبيب, رغم مرور عشر سنوات على زيارتها الأولى: (التحليل النفسي مثل اليد التي تمتد إلى أعماق الإنسان, وتنبش أشياء كان يخاف أن يجاهر بها. لقد استطاع الطبيب, أن يدفعني إلى البوح بجرأة بما يجول داخلي. لقد أنقذني من الغرق).‏

آكل لحوم البشر‏

هناك حلم كان يراود (م) لمدة خمس سنوات بين 10- 15 من عمرها (آكل لحوم بشر كثير الشعر وبشع جداً. وجهه مليء بالبثور المقززة وقذر. كان يلحقني, وأنا أركض هاربة منه وأصرخ, لكن صوتي لا يطلع). وقد عاد هذا الحلم يراودها بعد اثني عشر عاماً.‏

آكل لحوم البشر هذا, هو الرجل الذي اغتصبها, والذي لم يستطع الأب ولا الأم محاسبته على جريمته, رغم صراخ (م) واستنكارها على تركه وعدم القصاص منه. ويرى أفلاطون أن الإنسان الفاضل مقيد, حيث يرى في الحلم فقط, ما يقوم به البشع والدنيء في الحياة الواقعية.‏

ويتكرر لدى (م) حلم آخر يقول: (أمي سائرة أمامي, وأنا وراؤها. أحاول أن أمسك بطرف ثوبها, ولكني لا أفلح. إنها أمي فعلاً, ولكن تفاصيل وملامح وجهها تقول بأنها ليست أمي).‏

ويبد أن تأثير دخول الأب على حياة (م) في سن كانت أحوج ما تكون فيه لأمها, وابتعاد الأم عنها, جعلها تتمنى أن تستعيد تلك العاطفة التي حرمت منها.‏

وللأطفال أيضاً‏

نصيب من المرض النفسي‏

يصاب الأطفال بأمراض نفسية, كنقص الانتباه والاكتئاب والتوحد, واضطرابات التعلم, والصرع والتخلف العقلي, والشلل الدماغي. ويشترك هنا الأطباء النفسيون والأطباء العصبيون في معالجة الطفل المريض. ومن الملاحظ لدى الأطباء النفسيين أن نسبة كبيرة من الصرع غير معالجة بسبب الجهل. علماً بأن هذا المرض قابل للعلاج, والطفل غير المعالج سيرفض اجتماعياً, ولن يتأهل دراسياً, لأنه يتم رفضه في المدرسة, بسبب النوبات التي تأتيه, وبسبب خجله من التواجد بين زملائه. ويقول الدكتور بيير شنيارة: (وبسبب الجهل, يحضر الأهالي أبناءهم المرضى بالشلل الدماغي بشكل متأخر وبعمر 15 سنة. ولو أحضروا أطفالهم مبكراً لخضعوا لمعالجة فيزيائية وتنمية فكرية وتداخل جراحي, ولأصبحوا قادرين على التأقلم مع بيئتهم). وتقوم وزارة الصحة بتدريس الطب النفسي للأطفال أثناء التدريب, حتى تعتمد مستقبلاً على خبرات الأطباء في توسيع خدمات وزارة الصحة بهذا المجال.‏

أسس الدكتور سامر جهشان قسم التوحد في مشفى البشر للأمراض النفسية والعصبية, وسعى إلى مساعدة الطفل التوحدي, لدفعه إلى التفاعل الاجتماعي ومساعدته على التواصل الكلامي وغير الكلامي, وعلى إعادة قدراته الذاتية. ومن ثم توصيله إلى المرحلة الأكاديمية. ويقول د. جهشان: (حتى إننا نساعد أهله على التعامل في البيت ونساندهم لحل كل المشكلات التي يقع بها في المنزل. برامجنا مخصصة لكل طفل. وكل طفل له برنامج فردي).‏

العرافات في مواجهة‏

الأطباء النفسيين‏

رغم تطور الطب والأدوية, ورغم تقدم الإنسان, فما زال هناك من يصر على أن الدور الأساسي في معالجة المرضى النفسيين, يجب أن تقوم به العرافات والمشعوذون. ليس الأمر متعلق بالناس البسطاء الأميين, كما يقول الدكتور شنيارة, بل إن هناك أناساً ذا تعليم عالٍ, يذهبون إلى المشعوذين والعرافات, وهم على قناعة راسخة بأن المرض النفسي هو عبارة عن شيطان دخل إلى نفس المريض, وببساطة تستطيع العرافة أو المشعوذ, أن يخرجاه بعدة عبارات غير مفهومة, وببعض الحركات والإشارات.‏

وحين يفشل المشعوذ في إخراج الشيطان المتمترس جيداً في العوالم المخفية, والرافض للخروج, فإن أهل المريض يتوجهون بمريضهم إلى العيادات النفسية, حاملين معهم عبارةَ أسفٍ للطبيب: (أخطأنا, ولكن لجأنا إلى هذا الأمر, لأن كلمة (مريض نفسي) صعبة ومؤذية. والغريق يتعلق بقشة).‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية