ومن أين يدار الإنسان ويكاد? أهو آلة معدنية تحركها أجهزة التحكم أم أنه في كثير من الأحاديين (رابوخ) في لحظات الجد والاستحقاق ما كلُّ الرجال رجالٌ, اتذكرون تلك المرأة التي شعرت بالخزي والعار عندما رأت الباشا على حقيقته, وقالت: كنت أظنّ الباشا باشا حقيقي, لكنه كغيره.. ونضيف نحن بل ربما أسوأ.. وقبل هذه المرأة العفوية كانت العرب تنسج معادلة فكرية صحيحة بدأتها ميسون التي تركت قصور الشام وعادت إلى مضارب أهلها لم تفرحها بهرجة الحضارة على تواضعها آنئذٍ, آثرت بني قومها مع أنها لم تغترب خارج حدود الانتماء, ميسون رأت الكلب خيراً من .. ورأت الخيمة قصراً منفياً, (أميسون) هذه موجودة بين النساء والرجال اليوم.. لاأحد يدعو لأن نعود إلى عصر التقشف وشظف العيش, ولكن أما من أحد يدعونا لأن نستر عرينا, ونحفظ ماء وجهنا قليلاً, أما من أحدٍ يقول لنا: إنّ الفضائيات لم تخلق لمثل هذا العهر السياسي الذي نسمعه ويغزونا ليلاً نهاراً, ويقرع فوق رؤوسنا قنابل (موآب) ويبشرنا بالجلاد وبالسيد المطاع, أما من أحدٍ يسأل أو يصرخ أو يقول: إنكم منافقون دجالون وإنكم عراة لاعري الجسد بمعيب الآن, لكنه عري القيم والأخلاق هل من أحد يسأل: كيف يتكاثر المحللون والمنظرون الذين يشحذون السكاكين ويعدون الأطباق لوليمة دمٍ ولحمٍ, لاذنب له إلاّ أنه ذات يوم أذاق العدو مرارة الهزيمة.. هل يتذكر هؤلاء أن بن غوريون قال: إن قرارات الشرعية الدولية لاتساوي قصاصة ورق ولا حتى الحبر الذي أريق من أجلها..
هل يتذكرون غولدامائير التي صرخت مذعورة: إني أشعر بالرعب من كل طفل فلسطيني يولد.. أم نذكرهم برجل السلام المدجج بأحدث نظريات القتل الرحيم والرجيم نذكرهم بشارون ودم صبرا وشاتيلا لمّا يجف بعد وإن كان قد طمس.. شارون, هو هو كما في الأسطورة سيبقى يقود الأرواح الى الجحيم.. في عام 1982م يوم استباح لبنان وجاءه متطوعون أمريكيون ليكونوا عوناً له..قال: كنت على استعداد أن أذهب الى مكّة.. وبالتأكيد لن يذهب ليعلن اسلامه, بل هو ذاهب كما يتوهم ليحرث الأرض وليضع المصير.. بعد هزيمة جيشه في لبنان ولم يكن قد تولّى رئاسة الحكومة أعلن أنه لن يشعر بطعم الراحة حتى ينتقم لهذه الهزيمة.. وللانتقام ألف لون ولون, له أن يشعل أرضنا وسماءنا وماءنا فتنة واقتتالا,ً له أن يجذب بغاث الطير تحلّق حيث تظن أنها قد وصلت الذرا العالية..
-وحدهم الشعراء..
في هذا اللجّ الهائل وحدهم الشعراء كانوا العرافين, كانوا البوصلة التي تحدد الاتجاه, وحدهم وبحس الإبداع المأساوي كانوا يرون طوفان الاستسلام القادم تبدو ملامحه واضحة وجلية, كنا نظن ذلك ضرباً من الخيال, ضرباً من الجنون, من يقفز أو يغدر بدماء الملايين من أبناء الأمة, من الذي يستطيع أن ينسى مناظر الأطفال القتلى, أو أن يبعد من خياله النار التي التهمت كلَّ شيء وحولتنا إلى رماد.. في أحسن الأحوال كنّا نظن أن الحق سلطان وأنّ الباغي قد ينتصر في جولة أو جولات أمّا أن يكون سيّد ما مضى وما هو آتٍ, أن يكون فارساً على أحصنة من صنف جديد فذلك ما لم يظنه أو يتنبأ به أحد على الإطلاق.. إنه زمن (صعود الحمار على شجر الجوز) كما تقول العامّة عندما يريدون التدليل على استحالة أمر ما.. اليوم صعد الحمار وألف صعد.. لم تعد ثمة معجزات ولاحدود ولاحواجز, ولانفاجأ بالذي يحمله الغد.. لكننا نعود الى خيباتنا الى قطع أجسادنا وأشلائنا التي تناثرت عبر نصف قرن هنا وهناك.. نعود الى نزار قباني قائلاً:
سقطت آخر جدران الحياء..
وفرحنا, ورقصنا
وتباركنا بتوقيع سلام الجبناء
لم يعد يرعبنا شيء
ولايخجلنا شيء, فقد يبست فينا عروق الكبرياء..
سقطت آخر محظياتنا في يد الروم فعن ماذا ندافع..
لم يعد في قصرنا جارية واحدة.. تصنع القهوة والجنس
فعن ماذا ندافع..?
لم يعد في يدنا أندلس واحدة نملكها
سرقوا الأبواب والحيطان والزوجات والأولاد
والزيتون والزيت.. سرقوا عيسى بن مريم
وهو مازال رضيعاً.. سرقوا ذاكرة الليمون
والشمس والنعناع منا.. وقناديل الجوامع..
وبعد هذا..
وبعد هذا كلّه ما الذي يخبئه الغد, وماذا يحمل الحواة في الجعب, ماذا يحيك الذين يتلونون بألف لون..ماذا بعد أن ينتهي حفل الزفاف وينتهي الحفل وقد ذاب المكياج وظهرت السروج, وبدت العروس في ليلة عهر بعدها ستلقى الى حيث يجب أن تكون بعد أن كانت مطيه, ومن المطية في قاموس مفرداتنا ما يخجل.. وقد لايكون مظفر النوّاب فيما قاله إلا مقصراً, بحق أولئك الذين يتكاثرون وكأنهم الجرذان التي تحمل الطاعون.. وحتى تتحقق النبوءات وينجلي فجر عربي حقيقي سيبقى دمنا بلا ثمن.. وسنبقى ندفع ثمن الانتقام.. هل تتذكرون.. لماذا تبدو ذاكرتنا في أحسن حالاتها كذاكرة صرصار, وذاكرة الآخر تحصي علينا أنفاسنا وتحاسبنا من يوم ولدنا الى يوم نبعث..?