فطرية صاحب المرء منذ الأزل-لا تتوقف ظواهره وتجلياته على مستوى الوعي الفكري أو العقلي عند الإنسان فحسب, بل تتجلى أيضاً على مستوى اللاشعور,من خلال جملة الأحاسيس والمشاعر الباطنية, إلى أن تصبح في النتيجة جزءاً لا يتجزأ من ثقافة الأمة وتراثها الاجتماعي ولعل هذا الكلام يقودنا إلى نتيجة فحواها:أن ا لأعياد الدينية ليست لايديولوجيا محددة أو ليست حكراً للرأسمال الرمزي-الدين- بحسب تعبير -ميشيل فوكو - وإن كان منشؤها مرتبطاً به. ونظن, بل لعلنا نميل إلى الاعتقاد بأن هذا هو مادفع الدكتور جورج جبور إلى وضع كتابه حول التعطيل في الأعياد الدينية من قبل الأمم المتحدة باعتبار الأعياد رمزاً ثقافياً لهوية للأمة, ومعلماً من معالمها الحضارية.
وبالتالي فإن اهتمام الدكتور جبور بهذا الأمر, إنما يتأسس على هم قومي بالدرجة الأولى,وتأكيداً على حضور الهوية القومية, في عالم نشهد فيه سعي القوى العظمى لابتلاع الأمم الأخرى وطمس ملامح هويتها وهذا بالذات مايدعى ب¯( العولمة) وليس غريباً في هذا السياق أن نرى الإملاءات الأميركية تتتالى علينا تباعاًًً,وليس آخرها التدخل في المناهج المدرسية والتعليمية لطلابنا.
يتألف الكتاب الذي بين أيدينا من مقدمة وجزأين,أما المقدمة فتضمر في طياتها هدف المؤلف أو غايته من هذا الكتاب, ويتبلور هذا الهدف في رغبة المؤلف بأن تكون العطل الأسبوعية أمراً متفقاً عليه في العالم الإسلامي,ليمهد هذا الاتفاق السبيل نحو حوار (أورو أميركي) تستثمر فيه هذه القضية( الأعياد الدينية) أو توظف من أجل الدخول في شكل من أشكال الحوار بين الحضارات, علماً أن الدكتور جورج لا يجرد المسألة من أبعادها السياسية.
وما يمكن الإشارة إليه, أن الدكتور جبور له السبق-كما يقال- في طرح فكرة التعطيل في الأعياد الإسلامية من جانب الأمم المتحدة ,وقد ظهرت الدعوة منه بتاريخ 13/7/1989 وحظيت بموافقة الجمعية العامة للأمم المتحدة في جلسة عقدت بتاريخ 31/3/.1998
أما الجزء الأول من الكتاب فينضوي تحت عنوانين اثنين هما:
1- أوراق من سيرة ذاتية,ثلاث مبادرات من أجل حقوق العرب المسلمين.
2- المبادرة الثانية, تعطيل الأمم المتحدة في الأعياد الإسلامية.
العنوان الأول لهذا الجزء يتحدث عن جملة المبادرات الشخصية التي قام بها الدكتور جورج ساعياً إلى بلورة هدفه وشرح فكرته على المستويات كافة, الرسمية منها وغير الرسمية,وقد تجسد ذلك من خلال لقاءاته مع المسؤولين الدوليين والقائمين على المؤسسات الدولية ذات الشأن,وبذل ما بوسعه, بغية لفت الانتباه والاهتمام بالرموز الدينية للمسلمين.
ولعل أهم ما أراد الدكتور جبور تأكيده يتلخص في المقبوس التالي:
(كل منظمات الأمم المتحدة تعطل في الأعياد الدينية المسيحية,ولكن أياً منها لا يعطل في المناسبات الدينية الإسلامية, وأقول عابراً:إن واجب احترامنا لذاتنا كعرب ومسلمين يفرض علينا إثارة موضوع تعطيل منظمات الأمم المتحدة يوماً واحداً على الأقل في العام كعيد للمسلمين.
وليكن هذا اليوم أول أيام عيد الأضحى وتدلني تجربة مع مدير عام اليونسكو بهذا الشأن إلى أن تحقيق هذا المطلب قد يكون أسهل من شربة ماء. إنه لنا بمجرد طلب).
ثم قدم -بعد الشكر- اقتراحين أساسيين هما :
1- دعم وتحصين قرار الأمين ا لعام, والعمل على وضع خطة مدروسة,قانونياً- ودبلوماسياً-بغية تثبيت القرار بقرار آخر من الهيئة الأعلى,أي الجمعية العامة.
2- دعوة الدكتور جبور لمتابعة الأمر بخطوات أخرى تتمثل بقيام مصر بإعلان يوم الفصح القبطي إجازة عامة للدولة كلها على غرار ما فعلت سورية, ويتضمن أيضاً دعوة غير مباشرة إلى فرنسا لتجعل يوماً في السنة عيداً للمسلمين,وخاصة أن نسبة المسلمين فيها مرشحة لأن تصل إلى 10%.
ثم ينهي الدكتور جبور الجزء الأول بعدة ملاحظات هي عبارة عن أفكار ومقترحات,ربما اتخذ بعضها صيغة التساؤل, لكن هذا التساؤل يضمر في طياته جزءاً كبيراً من الجواب.
وفي نهاية الجزء الأول يأتي ثبت بالملاحق التي تتضمنها معظم الرسائل المتبادلة بين المؤلف والجهات التي كان يحاورها ويخاطبها,إضافة إلى بعض الوثائق التي أرادها أن تكون شاهداً على سعيه الحثيث واهتمامه بقضايا أمته.
ويتصدر الجزء الثاني من الكتاب مقالاً بعنوان:(عيد الفطر والاتحاد الأوروبي) يحاول هذا المقال أن يبين طبيعة العلاقة بين الدولة العلمانية والمناسبات أو الأْعياد الدينية, أي كيف تتعامل الدولة العلمانية مع الطقوس الدينية, باعتبارها تجلياً روحياً لمعتقد ديني محدد , ويؤكد في هذا السياق أن الدولة العلمانية لم تقطع كافة الأواصر مع الدين,بل حاولت منع نفوذ الدين في مجال سياسة الدولة, بمعنى أن الدين كطقس اجتماعي موجود, إلا أن هذا الوجود لا يتعدى تخوم الاحتفالات والعطل, ثم يتساءل الدكتور جبور عن معاملة الدول العلمانية للأقليات الدينية فيها,إلا أن الجزء الأهم يتمحور حول تطور الموقف الأميركي من مسألة تعطيل الأمم المتحدة بمناسبة عيدي الفطر والأضحى, ويبين المؤلف كيف تحول الموقف الأميركي من موقع الرفض والمجابهة والاعتراض,إلى موقع المبادرة والمشاركة,والذي تكلل يوم 25/1/1999 حيث ترأست هيلاري كلينتون أول احتفال بعيد الفطر,ثم تلا ذلك رسالة متلفزة,قام الرئيس كلينتون من خلالها بتهنئة المسلمين بحلول شهر رمضان المبارك,وإزاء هذا الموقف الأميركي المتطور وفقاً للدكتور جبور فإننا نجد الاتحاد الأوروبي يلوذ بالصمت إزاء مسألة إقرار العطلة في عيدي الفطر والأضحى, علماً أن فرنسا تقدم التهاني إلى إمام جامع باريس, وكذلك بريطانيا,وما يريد أن يدعو إليه المؤلف هو حض الاتحاد الأوروبي ليتخذ موقفاً متقدماً في هذا الاتجاه.ومن هنا تبدو أهمية الرسالة التي وجهها إلى رئيس الاتحاد الأوروبي-رئيس فنلندا-يحض فيها على محاكاة الحفاوة الأميركية بعيد الفطر.وينهي المؤلف هذا المقال بدعوة مباشرة موجهة إلى المؤتمر الإسلامي من أجل أن يقوم الأخير بتقديم التهاني إلى المسيحيين في البلاد الإسلامية والعالم بعيد الميلاد المجيد.
ويلي هذا المقال مباشرة, الرسالة التي وجهها الرئيس الإيراني محمد خاتمي-بصفته رئيساً للمؤتمر الإسلامي- إلى المسيحيين في العالم ثم يأتي بعدها ثبث ببعض الملاحق والرسائل التي وردت إلى المؤلف.
بقي أن نقول:إن كتاب (الأمم المتحدة والتعطيل في الأعياد الإسلامية). لمؤلفه الدكتور جورج جبور هو من الكتب التي تبين لنا أن المؤلف هو أحد الذين يمكن وصفهم ب¯( العالم العامل) أي من المفكرين الذين يربطون الفكر بالممارسة الفعلية,ومن الذين أدركوا بحسهم العميق, وبصيرتهم النافذة أن التلازم بين العروبة والإسلام أمر قائم لامناص منه.
كما يستشف قارىء هذا الكتاب أن المؤلف هو أحد الغيورين على هوية ومستقبل أمته,الأمر الذي جعله يعمل بدأب وصمت دون أن ينتظر جزاء أحد,وهذه سمة كل مثقف ومفكر مخلص, حمل القيم والمبادىء وأخلص لها حتى النهاية.