فقد أشرفت الأمم المتحدة زهاء أربعين عاماً على تفكيك الاستعمار وانعتاق الدول المستعمرة من ربقته على نطاق الكرة الأرضية بأسرها. وأرسلت الأمم المتحدة قواتها لحفظ السلام في مناطق مثل كمبوديا وقبرص وصحراء سيناء وغيرها, وكان للأمم المتحدة دور بارز كبير في وضع حد لسياسة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. وكان لمنظمة الصحة العالمية التابعة للأمم المتحدة الدور الأكبر في استئصال مرض الجدري, وهي الآن تتقدم الصفوف في مكافحة واستئصال مرض شلل الأطفال.
أما برنامج الغذاء العالمي, فقد أسهم في تخفيف مآسي المجاعات التي تضرب القارة الأفريقية. على الصعيد نفسه برنامج الأمم المتحدة للتنمية بإرسال العون العالمي إلى الدول الفقيرة بأعلى مما تفعله أية دولة على انفراد.
اليوم, وبعد مضي أكثر من نصف قرن على انشاء الأمم المتحدة, فإن القليلين جداً لا يدركون أن هذه المنظمة الدولية العجوز قد عاشت ووجدت بيننا كل هذه السنين, وأنها فتحت نافذة للأمل على النطاق العالمي كله على الرغم مما تعانيه من نقص في الموارد المالية والانتقادات اللاذعة القاسية التي وجهتها إليها الولايات المتحدة مؤخراً.
ولا جدال في أن الأمم المتحدة قد تحولت عبر هذه السنين إلى غرفة طوارىء دولية. ولكن السؤال هو ما إذا كانت ستبقى لتمارس هذا الدور الحيوي. ذلك أن غلاة اليمين المتطرف في الولايات المتحدة ظلوا يناصبونها العداء, ويسيئون إلى سمعتها وينعتونها بشتى النعوت السلبية مثل: المنظمة المترهلة, مملكة الكلام واللافعل, المتنصلة من مسؤولياتها, التي لاوجود لها وقت الجد.. إلى آخره من نعوت.
نتيجة لذلك, ما انفكت شخصيات قيادية في مجلس الشيوخ تدعو باستمرار إلى عدم أهميتها, والقول إنها تقيد السيادة الأميركية وتحد منها, وفوق ذلك, انتعشت النزعة الأحادية مجدداً في هذا العصر. فقد جنحت إدارة بوش إلى تبني مبدأ الحرب الاحترازية الذي يخول الولايات المتحدة شن الحرب متى شاءت وضد من شاءت وبصرف النظر عن توفر خطر مشروع يبرر شن الحرب أم لا.
عندما كان ملايين الأميركيين يشاهدون إدارتهم وهي تقوم بالتحضير للحرب على العراق, كان رأيهم في ذلك الوقت أن الأمم المتحدة تتصرف بعناد لا مثيل له, وأنها مصممة على إحباط جهود بلدهم لجعل العالم أكثر أمناً. وفي ذلك الوقت بذل الرئيس (بوش) ووزير خارجيته ( كولن باول) جهوداً مضنية لإقناع العالم بأن الطريقة الأميركية في التعامل مع المسألة هي الصحيحة, وأن كل شيء سيكون على مايرام إذا ما تخلت الأمم المتحدة عن عنادها, واستمعت لما تقوله واشنطن. وعندما ينظر هؤلاء الأميركيون إلى ما يحدث الآن في العراق فإن البعض منهم ربما يتساءل عما كان يمكن أن يحدث لو أن قادتهم قد استمعوا إلى الأمم المتحدة في ذلك الوقت. ومكانة الأمم المتحدة, التي كانت قد بدأت في التدهور بعد أن أدى سقوط الاتحاد السوفييتي السابق إلى جعل أميركا هي القوة العظمى الوحيدة في العالم, تدهورت أكثر فأكثر في الفترة التي تلت أحداث الحادي عشر من أيلول, كما يتبين لنا من الأحداث التي وقعت بعد ذلك التاريخ, وخصوصاً في العالم الإسلامي.
في شهر كانون أول لعام ,2004 كتب الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان مقالاً أكد فيه أن الأوضاع لم يطرأ عليها إلا التدهور في السنوات القليلة الماضية. وسرعان ما تحولت لحظة التضامن العالمي ضد الإرهاب عام 2001 جدلاً مريراً في شأن الحرب على العراق وهو جدل تبين أنه انعكاس لانقسامات أشد عمقاً في شأن مسائل جوهرية. وطرح تساؤلات حول مفهوم السيادة في الواقع الحالي قائلاً: (حينما كان التساؤل عما إذا كانت سيادة الدولة مبدأ مطلقاً, أم أن المجتمع الدولي يتحمل مسؤولية منع الصراعات أو تسويتها داخل الدول, ولاسيما حين ترتكب إبادة جماعية أو غيرها من الفظائع المماثلة).
و تساءل عن (الدور الذي ينبغي أن تؤديه الأمم المتحدة في عالم أصبح أحادي القطب)!
وانطلاقاً من ( أحادية القطب) في النظام العالمي الجديد نجد أن الولايات المتحدة الأميركية هي المسؤول الأول عما يعاني منه العالم وتعاني منه الشعوب لأنها تصر على قيادة منفردة وعلى استقواء واستعلاء وعلى فرض سياسات على الآخرين.
فمفهوم الشراكة عندها غير موجود, والنظرة إلى الأمم المتحدة قائمة على اعتبارها أداة يمكن اللجوء إلى استخدامها عند الحاجة الأميركية إليها فقط, وليست مؤسسة مبنية على أسس وقيم ومرتكزات وقامت من أجل أن ( تنقذ الأجيال المقبلة من ويلات الحرب) ونعتقد في الأساس أن ثمة حاجة اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى تفعيل دور الأمم المتحدة وتطوير مؤسساتها لأن( الأجيال المقبلة) كما الحاضرة تتعرض لويلات حروب كثيرة في ظل الاستباحة الأميركية للعالم وللقوانين والأعراف والمواثيق الدولية ولأن الأمراض والبيئة وغيرهما والمترابطة فيما بينها, تحمل مخاطر كبيرة في ظل القيادة الأميركية للعالم والتسابق على التسلح, وعدم التوصل إلى شراكة عالمية حقيقية مبنية على مفاهيم مشتركة وتعريفات مشتركة لكثير من العناوين التي تخاض تحتها الحروب التي تخلف الويلات. ولذلك لا بد من تعاون دولي جدي للتمسك بالأمم المتحدة ومنع سقوطها من جهة كما يريد البعض وعلى رأسهم بعض المسؤولين الإسرائيليين وبعض المسؤولين الأميركيين الذين يعتبرون أن العالم قد تغير, وأنها منظمة قامت بعد الحرب العالمية الثانية وفي ظل ميزان وواقع دوليين معينين مختلفين عما هو قائم الآن, كما ينبغي العمل لمنع استخدامها بمنطق القوة والهيمنة كما تفعل الإدارة الأميركية اليوم.
وفي الوقت الذي تتهم فيه أميركا الأمم المتحدة بأنها تعرقل تحقيق أهدافها ويتهمها العالم من جانبه بأنها خاضعة لواشنطن, فإن الحقيقة دائماً تقع في مكان بين الاتهامين. فالولايات المتحدة هي أقوى دولة في العالم, والدول الأعضاء في المنظمة الدولية وسكرتيرها العام ( كوفي عنان) يعرفون أنه دون علاقات وثيقة مع واشنطن, فإن المنظمة لن تكون لها قيمة تذكر فيما يتعلق بتحقيق الأمن العالمي. وهنا تحديداً تكمن المشكلة, فاقتراب الأمم المتحدة أكثر من اللازم من واشنطن سوف يؤدي إلى التأثير سلباً في النهاية على دورها الذي يجب أن ينحصر في تحقيق نوع من الإجماع العالمي على المسائل الحيوية.
إن رصيد الأمم المتحدة سيتبدد , وستتحول إلى منظمة عديمة الفائدة عندما تنظر إلى العالم من خلال عيون أميركية. وفقدان الشرعية هذا هو التحدي الأكبر الذي يواجه المنظمة الآن وبقدر إصرارنا اليوم على الأمم المتحدة ودورها وحيويتها وحاجتنا إليها بقدر ما نشعر اليوم بأهمية تحمل المسؤولين عنها مسؤولياتهم الكاملة, فهم في مواقعهم لحماية الشعوب ومساعدتها ولإنقاذهم من ويلات الحروب, كل الحروب الإعلامية والسياسية والنفسية التي تولد حروباً من نوع آخر.
ويجب على أميركا من جانبها أن تعمل على إنهاء احتلالها للعراق, لأن الشعب العراقي وشعوب المنطقة مقتنعان تماماً بأنها موجودة هناك من أجل النفط ومن أجل القواعد العسكرية ومن أجل دعم ( إسرائيل)...