تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


الرواية التاريخية أم الروايـة والتاريخ ؟

ملحق ثقافي
الثلاثاء 16/1/2007
ممدوح عزام

يتجاهل التأريخ حياة الكائن الإنساني الفرد , أو ينساها , أو يدمجها في السياق العام للمصير الجماعي .

ومن الصعب أن ترى في التاريخ وجها مفردا إن لم يكن وجه ملك ,‏

ومن المستحيل أن تعرف ما في داخل الكائن البشري , بينما تجد الرواية , أو تجد في الرواية , هذا الفرد المعطوب أو المتوازن , بلحمه ودمه مشخصا . من البديهي ألاَ يقارب التاريخ مصائر الأفراد , إذ ماذا يعرف عنهم ؟ (افتح قوسا هنا لأقول إن النظريات أيضا , بما فيها تلك التي تزعم مناصرة الكادحين , لاتأبه بالكائن الفرد ) بل إن آثار التاريخ غير منظورة تماما في تلك المصائر ¸لا في يد المؤرخ , ولا في يد عالم النفس , ولا في يد عالم الاجتماع, ولا في يد السياسي. لكن ذلك الكائن بدا اختصاصا للرواية منذ نشأتها كرواية . قد يذهب الروائي مثل المؤرخ إلى كتب التاريخ, والوثائق،والسير،والمذكرات،والحكايات،غير أنه يلغيها كلها حين يبدأ كتابة الرواية. فالرواية تخييل محض،تعيد تركيب ما حدث،أو أجزاء مما حدث، والأرجح أنها تكتب عما لم يحدث. خاصة في التفاصيل. وما دامت الرواية تنشغل باليومي،فهي ملزمة بأن تلجأ إلى الخيال كي تغذي تلك اليوميات بالتفاصيل الضرورية روائيا لها، ذلك أن تفاصيل ما حدث،أو ما كان يمكن أن يحدث،يمحوها الزمن مهما كانت قريبة،أو بعيدة. لا أحد يعرف ماذا يقول عاشق لمعشوق حين يختليان معا،أو بماذا فكر متآمر في خلوته،أو كيف كانت ملامح وجوه القادة في ساعات النصر أو الهزيمة. يختار الروائي ما يشاء أن يختاره،وهو يرسم الشخصية الروائية ,ولكي نحكم على عمله،لا ينبغي أن نستخدم الأصل التاريخي للشخصية الروائية, للتأكد من جودة،أو عدم جودة الصورة الفنية لها،" وإنما شكل تجليها في الرواية من جهة،وكيفية استخدام الروائي لأدواته الفنية،وأهمها أداة التحوير, من جهة ثانية".فشغل الرواية الأساسي ينصب على بناء المتخيل من تاريخ من لا تاريخ لهم،وحين يدخل إلى الرواية أحد القادة،أو المشاهير،يتحول،ويستعيد إنسانيته،أي هامشيته، والهامشي يشير هنا إلى الضآلة لا إلى التفاهة،ويؤكد على التفرد كإنسان محدد من لحم ودم،وعدا ذلك فإنه يظل مجازا. وما دمنا نشير إلى الهامشي،مما لا يحفل به التاريخ،فإنني أرى أننا نعبر إلى مساحة مليئة بالألغاز والغوامض والأسرار،وبفضل هذا تتمادى المخيلة بلا قيود،أو حدود،فيما يفترض أنه حدث،أو أمكن أن يحدث،دون أن تكون مضطرة أبدا للانخراط في شروط المرجع الواقعي ِ. ومن المستحيل إجراء أي مطابقة بين الرواية والواقع،أو بين الرواية والتاريخ،فهناك اختلافات كثيرة تعترض إجراءاتنا إذا ما حاولنا ذلك ,أولها هو أن الرواية تمثل مقطعا من حكاية أشمل لا يمكن كتابتها،وكل رواية هي اجتزاء من كلية عامة،من الصعب الإحاطة بها،والرواية تقوم على الاختيار،اختيار العناصر الفاعلة في مسار الأحداث،وعلى الاستبعاد أيضا ,أي تصفية النص مما لا دور له،ويمكن للمصادفة التي تأتي اعتباطا وعفوا في الحياة،أن تكون مختارة داخل متن الرواية،إذا ما قدر الروائي فاعليتها. وثانيها هو اختلاف شروط الزمان،فالخبر الذي نرويه في دقائق،يلخص أحداثا وقعت خلال ساعات،أو أيام،أو أكثر.. وإذا تأملنا زمننا،فإننا نرى أنه لا يشبه الزمن الروائي في شيء. فزمننا خطي،تتابعي،مليء بالحشو،والاعتباط. زمن لا يمكننا التحكم به. والأرجح أنه هو الذي يحكمنا،ويلاحقنا،أما الزمن الروائي فهو زمن تخييلي،وكل تخييل له زمنه الخاص،الذي لا تظهر فيه ساعاتنا وأيامنا وسنواتنا كما هي،فنظام الزمن في الرواية مختلف تماما عن نظامنا الزمني،وهنا أذكر قصة لبورخيس ( موجودة في مجموعة موت في الشارع،وذكرها فارغاس يوسا في كتابه رسائل إلى روائي شاب ) هي " المعجزة السرية" حيث يمنح الرب الشاعر التشيكي جارومير هلاديك المحكوم بالإعدام،سنة إضافية لكي ينهي تأليف مسرحيته الشعرية " الأعداء" التي كان يخطط لها طوال حياته. السنة التي يتمكن خلالها من إنجاز هذا العمل الطموح،تنقضي بين صدور الأمر " نار " الذي يصدره قائد فصيلة الإعدام،وارتطام الرصاصات التي تمزق جسد المحكوم. وهذا يعني في جزء من الثانية ". وثالثها هو المكان،وإذا ما نظرنا إلى حياتنا اليومية،وجدنا أننا محاصرون بالمكان تماما،ومن المستحيل اختراقه،وكل ما نستطيع القيام به هو تغيير الأمكنة،كما لن نتمكن من إضافة مكان جديد إلى الكرة الأرضية،أما في الرواية،فهذا ممكن دائما،وضروري ,ويخطر في البال هنا مقاطعة ( يوكنا باتاوفا) التي ابتكرها الكاتب الأمريكي وليم فوكنر،وخلق أحداث رواياته فيها،وعلى غراره فعل غابرييل غارسيا ماركيز حين ابتكر (ماكوندو ). وثمة اختلافات أخرى تتصل بالشخصيات،والأحداث،وغيرها تجعل من الرواية عملا مستقلا قائما على المتخيل وحده،بحيث لا يمكن مقارنتها بالواقع حاضرا أو تاريخا, والتاريخ محكوم بالوقائع،مطوق بالوثائق،والمذكرات،أما الرواية فنص حر عصي على الترويض.التاريخ (أو التأريخ ) يقدم أجوبة،وبصرف النظر عن ماهية تلك الأجوبة،فإنها مرهونة لنظرية المؤرخ،لكن الرواية لا تعرف الإجابات،وهي ماتني تطرح الأسئلة على نفسها،وعلى العالم من حولها. في كتابه "شكسبير معاصرنا" يكتب يان كوت ما يلي :" راجع عناوين الأطروحات والدراسات التي كتبت عن هاملت،تجد أنها ضعف حجم دليل التلفون لأي عاصمة كبرى" والسبب هو أن شكسبير وضع القضية الهاملتية في صيغة السؤال الشهير : نكون أو لا نكون. ليس من مهام الروائي،وليس بوسعه،أن يقدم الأجوبة،لأنه لا يعرفها من جهة،ولأن الرواية بشروطها الفنية لا تتحمل هذا العبء ,وسوف تتحول إلى الوعظ و الإرشاد،والمباشرة،إذا ما فعلت ذلك. وإذا ما استعان الروائي بالوقائع والأحداث،أي بما يسمى الحقائق، فإنها لا بد أن تدخل في عملية تجعلنا نميز بين أمرين،ذكرتهما فدوى مالطي دوغلاس،نقلا عن جان ريكاردو،في كتابها " من التقليد إلى ما بعد الحداثة" أولهما الحقائق المتغيرة،وثانيهما المتغيرات الحقيقية،الحقائق المتغيرة تصف وضعا روائيا يعبر عن حقيقة ما،أو أحداث ما لا شك فيها،لكن معنى الأحداث نفسها بمكن أن يتغير في الرواية،ومن ثم تتغير طبيعة الحقيقة،قد يكتشف القارئ،على سبيل المثال،في نهاية رواية ما أن الأحداث الموصوفة خلال الرواية لا تملك المعنى المتصور أصلا،بل تتخذ معنى جديدا. أما التغيرات الحقيقية, فتصف وضعا يقدم تعددا لتغيرات روائية ترتبط بجزء معين من الحبكة. وفي هذه الحالة لا يكون هناك شك في معنى الأحداث،بل في الأحداث نفسها. فإذا كانت الرواية تختلف عن الواقع أو الحياة أو التاريخ،لماذا تلاقي اعتراضات،وإدانات،ومحاولات للمصادرة, والتهديد،أو للتأنيب،والرفض من جهات عديدة ؟. الأدب عامة والرواية بصورة خاصة،تعبير عن عدم الرضا ـ كما أشار فارغاس يوسا ـ وهي تذكر الناس أن العالم على خطأ،وأن الحياة يجب أن تتغير دائما،وفي حال انتقال هذه الأفكار إلى القراء, فسوف يظهر لهم أن العالم الواقعي،والحياة المعيشة،أقل مصداقية من الحياة التي اختلقها الروائيون،وهذا يعني أن الرواية ( الجيدة طبعا) تثير قلقا تجاه العالم الواقعي في نفوس الناس،وهو ما يثير ريبة المؤسسات السلطوية،ويجعلها تناهض القصص،فاختلاق الروايات طريقة لممارسة الحرية،والاحتجاج ضد من يريدون إلغاءها. يبدو لي الآن أن بالوسع القول إنه لا وجود للرواية التاريخية ,و أن التسمية مزورة،أو ملفقة لغايات لا تخص الرواية والفن،بل تتعلق بالدراسات الأدبية،أو الاجتماعية،أو السياسية. المعترف به من قبل الأدب هو الرواية فقط،فإذا لم تكتب الرواية،بشروطها هي وحدها،فلن يفيدها أن تنتمي إلى أي شرط،واقعي،أو تاريخي،أو وجودي،أو أي تسمية أخرى.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية