عـــن صـاحبنا النقـد نقـديّ!!
ملحق ثقافي الثلاثاء 16/1/2007 د. جهاد عطا نعيسة سقى الله زمناً كان النقد فيه نقداً! أما بعد، فلا أدري منذ متى بدأت تجتاحنا تلك الإصدارات النقدية التي يعجز القارئ فيها عن الركون إلى صفحة واحدة تستحق القراءة.
فهاهو الكم، والاجترار، والادعاء، وتبادل المنافع، وتصفية الحسابات و ...و... لكن ما يبقى هو الأصيل دائماً. أما هذه البضائع الفاسدة، فالتاريخ وحده كفيلٌ بدفعها إلى مواقعها المناسبة، مهما بلغ الادعاء بمروِّجيها. منذ زمن غير بعيد صدر لأحد متعهدي الثقافة المصابين بعمى التمييز، بين مناهج الوصولية ومناهج النقد الأدبي، كتاب في نقد النقد يزن "كيلو غرام ونص، بالتمام والكمال"، ما وجدتُ فيه ـ واللهِ ـ مبحثاً مفيداً واحداً؛ بل خليط أفكار وأقوال لا تفكر ولا تقول شيئاً. فيضٌ نافل متعالم من ادعاء معرفي ومنهجي يصدر عن ضيق أفق مخزٍ، وخلائط متناقضة في وعي القديم والجديد في الفلسفة والممارسة الجمالية، وعلاقةِ الناقد بالمناهج والمرجعيات الثقافية، وحقوقِ المصطلح والمنهج وإواليات اشتغالهما البحثي والنقدي. وقبل هذا وذاك سيل من الأحكام المحابية والمتعسفة، التي تطرح السؤال عريضاً ومتكرراً: أما آن لهذه المهزلة أن تتوقف؟! وكيف لصاحبنا الموسوعي، والألمعي، والنقد نقدي، أن يقدّم عملاً يستحق القيمة في أي حقل معرفي، وهو الذي يسفح الوقت والجهد بغير حساب، لاعتبارات الوجاهة والسمسرة وسهرات التبجح، التي يعرف كل من ابتُلِي بمشاركته إحداها مقدار "الغتاتة" التي تحكمها؟ وأنّى له الوقتُ والجهد اللذان يستطيع تكريسهما في تحصيل معرفة أو إنتاجها، وهو المستعجل أبداً في سباق المنافع الذي يترامى به هنا وهناك؟ وماذا لكتاب أُنجِزَ في أسابيع أن يقول في موضوعٍ يتطلب جهود فريق عمل كامل؟ أم أن لصاحبنا "النقد نقدي"، الذي تفترش كتبه الأرصفة أشبه ما تكون بعنوانٍ دائم لجائحةِ انحدار الثقافة ومعناها وقيمها، فذاذته الخاصة، التي تتيح له أن يقرأ وينتج في أسابيع ما يتطلب سنيناً وطاقماً من الباحثين؟ اللهم إلا إذا أقرينا أن هدف الكتابة الأول هو التزلف لفلان، أو تبادل المدائح والمنافع مع فلان، أو تصفية الحساب مع فلان أو فلان أو فلان وما أكثرهم! أولئك الذين أداروا الظهر لصاحبنا وكتبه ومقالاته ومنافعه جملةً وتفصيلاً. والطريفُ الطريف أن هذا الصاحب، الذي اكتفى من نقد النقد بملامسة سطحية جداً للأعمال التي تورط في نقدها، والذي ربما لم يتجاوز في اطلاعه على معظمها، عناوينَ فصولها وبعض مقدماتها ومجزوءاتٍ متفرقةً منها، قد أخلص المديح لشخصين فقط من كل من شرّفهم بنقده، هما: خِلٌّ وصنوٌ: خِلٌّ هو شريك درب الوصول نفسه؛ الذي لا يعرف غير الله متى حصل على شهادته الجامعية ولا كيف!!! ولا متى حصل على شهادته العليا ولا كيف!!! ولا ما هي علاقته بالنقد ولا كيف!!! لكن الخل يا أعزّاء، هو الذي قفز بالصاحب من موقع الهاوي متواضع الموهبة وخامل الذكر لأحد الفنون، إلى موقعه التعهدي الذي يصول فيه ويجول. فكيف للصاحب بعد ذلك، أن يكون العاقَّ وناكر الجميل؟ أما الصنوُ عالي الجودة في رحلة الصاحب النقد نقدية، التي لم يستطع أن يقطع فيها متراً واحداً جديراً بالتقدير، فهو الذي لم يكف يوماً عن تفقيع مراراتنا بادعاءاتِ نزاهةٍ تجترح براهينَها في احتفالياتِ منافعَ ومدائحَ متبادلة مع الصاحب، حتى لَيختلطُ علينا الأمرُ أحياناً، فلا ندري أيهما الصاحب وأيهما الصنوُ! وإليك أيها القارئ العزيز إحداها: المشهد الأول: ( خشبة عارية حتى من ورقة التوت) تتصدرها مدحة عصماء يدبّجها الصنوُ في الصاحب خلال حفل تكريمي للثاني، وما أكثر حفلات التكريم ومحافلها في السنوات الأخيرة! المشهد الثاني: المدحة العصماء تلتمع في دوريةٍ بدأت تفقد مصداقيتها منذ زمن. المشهد الثالث: عدد لاحق من الدورية نفسها، ومدحة جوابية أشد حماسةً لصاحبنا النقد نقدي في صنوه. المشهد الرابع: تصفيق حاد... المشهد الخامس: (تغيّر في ديكور الخشبة كافٍ للتنبيه إلى تغيّر المكان). صاحبنا النقد نقدي يُصدر كتابه المختص جداً، وفيه صفحات طويلة لمديح الصنو عالي الجودة: أنجزَ كذا، وحققَ كذا، وهو الوحيد الذي فعل كذا وكذا... و "يا الله كم أبدعتَ حين أبدعتَهما صاحباً وصنواً!" المشهد الخامس : صوت / أصوات تتعالى في الصالة: أما آن لهذه المهزلة...؟ المشهد السادس: (الديكور نفسه) وعصماء جديدة في إحدى الدوريات للصنو في مديح الصاحب ، ليس بوصفه مفكراً هذه المرة، بل بوصفه المبدع الفذّ غير المسبوق أو الملحوق أيضاً. المشهد السابع، والثامن، وربما العاشر، والعشرون: (الديكور نفسه، لم يطرأ عليه تغير يستحق الذكر): صوت/ أصوات تتعالى وتتكاثر في فضاء الصالة، أوالثقافة المنكوبة: أما آن...؟! ماذا تبَقّى إذن؟ تبقَّى الكثير الكثير من احترام النفس والكلمة وتقدير مسؤوليتهما وعزتهما وشرفهما.. الكثير الكثير مما يكتبه ويقوله ويمارسه أولئك الذين لا يرقى إليهم شك بنزاهةٍ أو موهبة أو شرف، الموجودون والماضون كما السيوف، نحو أهدافهم النبيلة في قولهم وفعلهم على السواء.. برؤوس شامخة وضمائر من ذهب، مهما مكر بهم زمانهم.. شعراء وروائيون ومسرحيون وسينمائيون وفنانون تشكيليون، وصحفيون وباحثون ونقاد، ونقّادٌ نقديون أيضاً. لهؤلاء.. لهؤلاء فقط، الذين يتلألؤون في العتمة، مثل بشارات غيث مبارك، عطرُ زنابق الأرض كلها، وقرنفلة بلون العقيق الصافي الذي لا يعرف الغش.
|