|
د. أوريـان مـات: أؤمن بالعمل التطوعي وأكافح من أجل حماية التـــراث الســـــوري ملحق ثقافي
وقد انتشر هذا الاسم ليعم كل البلاد، حتى إن الروم القدماء الذين احتلوا هذه الأرض عام 64م أطلقوا عليها ولاية سوريا. في ذلك الزمن الموغل في القدم، كان الناس يقدمون صلواتهم لإلههم مردوخ، واهب الحياة والحاكم المطلق لكافة أماكن العبادة. كان مردوخ بابلياً، وهو ملك كل الآلهة ورب الأرباب. وكل ما في الطبيعة مدين بوجوده إلى مردوخ. وحين أصبح مردوخ سورياً، حافظ على مناصبه وقيمته القدسية، ونظمت حول شخصيته التراتيل والابتهالات باللغة الآكادية، فكسرت بذلك جمودها السومري. عادت حضارات سوريا إلى الحياة، وأزيل التراب عن إيبلا وفينيقيا وبالميرا وماري ودمشق. وصار أبناؤها يفخرون بتاريخهم القديم، وبالجذور العميقة للثقافة السورية عبر آلاف السنين. ثقافة روحية ومادية، امتدت بين الألفين الثالثة والأولى قبل الميلاد.
سقطت نظرية التفوق الشمالي العنصرية، بساطة أمام اكتشاف أحجار ورقم طينية، أصرت على البقاء لتشهد على الماضي الثقافي والفني. وظهرت سوريا سيدة العالم بأبجديتها، التي لم تبخل بها على أحد، وفي أي مكان من العالم. جاءت (أوريان مات) إلى سورية أول مرة عندما عقد مؤتمر (إيكتا ICCTA) في شهر نيسان من العام 2006. عندها تعرفت إلى أناس كثيرين والتقت بمتطوعين لإنقاذ عمريت. بعدها زارت مواقع كثيرة في سورية،وشاركت المتطوعين لإنقاذ الآثار الوطنية. ومن هنا بدأت قصتها بالاهتمام بالآثار. أوريان مات هي دكتور في المعلوماتية، وكانت تدرِّس في جامعة مونبليه في فرنسا، وحصلت بعد الدكتوراه على دبلوم تمنح بموجبه طلابها شهادة في إدارة الأبحاث. كانت تهتم بآثار حوض المتوسط بشكل عام، ومنذ أن قدمت إلى المؤتمر السالف الذكر اطلعت على الآثار السورية وقررت المشاركة بمشروع حمايتها. قالت أوريان: «لم يكن لدي أي اطلاع على الآثار في سورية، لكني أعلم أن سورية هي مهد الحضارات، وأن هذا البلد هو صاحب أول أبجدية، ومنه بدأت حكاية الكتابة. ومنذ أن اكتشفت جمال دمشق بأم عيني، بدأ اهتمامي بها بشكل خاص». شرعت أوريان بالبحث في تاريخ سورية القديم، فوجدت أن هناك أموراً مشتركة بين فرنسا وسورية، وكل بلد يهتم بآثار البلد الآخر. زارت آثار الفينيقيين في وطنها الأم فرنسا، وعلمت أن الفينيقيين قد وصلوا إلى أصقاع بعيدة من العالم، أبعد من بلدها.
لذلك فهي تسعى جاهدة للعمل على حماية هذه الآثار بالتعاون مع العلماء المختصين الذين يزورون ويعملون في سورية. ومنذ شهر نيسان 2006 صارت أوريان تأتي كل شهر إلى سورية، من أجل فهم السياق العام للعمل في حماية الآثار، ومن أجل لقاء الناس والمسؤولين في الثقافة والآثار والمعلوماتية، كي تباشر عملها. التقت مدير اليونسكو للبلدان العربية في باريس وصندوق الآثار العالمي (WMF) وهي هيئة دولية مهمتها حماية الأبنية الآثرية في العالم كله. والتقت بكل الأشخاص الذين يمكن أن يفيدوها في عملها، وكان منهم المستشار الثقافي في السفارة الفرنسية بدمشق، الذي زودها بالنصائح وفتح لها الأبواب العديدة لمقابلة أشخاص يساعدونها في هذا المجال. كما أنها خلال ذهابها إلى باريس كانت تلتقي بأشخاص سوريين مقيمين هناك ويهتمون بموضوع الآثار. متطوعة ميدانية تؤمن أوريان بالعمل الطوعي وتكافح من أجل حماية التراث السوري، وبرأيها فإن كل إنسان يستطيع أن يفعل شيئاً مفيداً. وقد قصت عليّ حكاية صديقتها الفرنسية التي أقامت معرضاً في قلعة دمشق للمنسوجات مستمداً من صناعة المنسوجات السورية، لإيمانها المطلق بأن صناعة المنسوجات وفنها ومعرفتها كانت في سوريا، وعليها أن تحافظ على هذا التراث. وقد أنشأت جمعية أطلقت عليها اسم (Association `Fil D` Ocre`) في مرسيليا.
أصبحت أوريان من ضمن المتطوعين لحماية عمريت. وزارت أماكن كثيرة مثل أرواد وقلعة صلاح الدين وتدمر وبصرى ومعلولا وصيدنايا. وقد دب فيها الحماس والنشاط، فعملت في عدة مشاريع، كان أولها: المشروع العلمي بين فرنسا وسورية، وهو مشروع مشترك يقوم به (بيت العلم الإنساني) في باريس من خلال الخبير فرانك غيتالا، بالاشتراك مع جامعة مونبليه ممثلة بالدكتورة أوريان مات، وهو تحت إدارة مديرية الآثار في سورية ممثلة بالدكتور بسام جاموس، ويشارك به العديد من الأشخاص منهم الخبير المعلوماتي فيكن عباجيان صاحب القاعدة العلمية في هذا المشروع. ومن المشاريع الأخرى التي تشارك فيها د.أوريان، هناك مشروعان ثقافيان، بدآ الآن عبر مهرجانات بين دمشق ومونبليه، تضم الشعر والنحت والتشكيل. وستنطلق هذه المهرجانات في الربيع القادم من دمشق، لأن دمشق ستكون عاصمة للثقافة العربية عام 2008. وتشارك د. أوريان أيضاً في مشروع، قام به متطوعون لإنقاذ عمريت، لبناء سفينة فينيقية على أرض جزيرة أرواد باعتبارها قاعدة للفينيقيين، ولوجود أناس في أرواد مختصين ببناء هذه السفن. وتقول أوريان: «هذه السفينة لها أهمية كبيرة عند الفرنسيين والسوريين وعند كل المتوسطيين. ولذلك فهناك مجموعة من المختصين ببناء السفن سيأتون من فرنسا للمشاركة في بناء هذه السفينة». وتضيف أوريان بأنه في جنوب فرنسا توجد مدينة فينيقية اسمها (سيتي Se`te). قلب دمشق وآخر مشروع تقوم به الدكتورة أوريان «هو مشروع حماية آثار مدينة دمشق القديمة. وهذا المشروع يتطلب مني التفكير والمدارسة مع اختصاصيين، لكي يؤمنوا حماية هذه الآثار القيمة، وهو المشروع الأعقد. إن دمشق تتطلب مشروعاً متكاملاً. فالمنازل في دمشق متلاصقة مع بعضها. وإذا أقدموا على ترميم منزل، فعليهم الانتباه إلى وضع المنازل الأخرى، والمحافظة عليها. ويجب الاهتمام بالنسيج الاجتماعي والبنى التحتية وتجنب التلوث». دمشق مصنفة في قائمة المدن الآثرية في العالم. لذلك فهي تخص العالم كله وليس سورية فحسب. وقد أجمع المختصون في كل أنحاء العالم على الاهتمام بمدينة دمشق. وهذه ليست بالمهمة السهلة. أطلق على مشروع حماية آثار دمشق اسم (قلب دمشق) وهو عبارة عن عمل طوعي، يقوم به المهتمون والذين يخافون على دمشق، وقد أنشأوا موقعاً على الإنترنيت باسم المشروع باللغتين الإنكليزية والعربية. واستفاضت الدكتورة بكلمات عشق عن دمشق قائلة: «تعتبر كل دمشق إرثاً عالمياً، وهي ملك لكل العالم. دمشق مدينة رائعة، ويجب أن نتعلم كيف نحافظ عليها. إن تاريخ دمشق يلخص تاريخ سورية كلها». لا معوقات تؤكد د. أوريان أنه ليست هناك معوقات في وجه عملها، فالحكومة السورية تسهل لها مهمتها، وقد منحتها وزارة الثقافة السورية ترخيصاً لتسهيل عملها باهتمام الوزير د. رياض نعسان آغا ومعاونه لشؤون الآثار د. عبد الرزاق معاذ الذي استقبلها مراراً وقدم لها كل مساعدة ممكنة. وكما تقول: «إن الأمور تسير بشكل حسن جداً. وأشعر أن البلدين - ورغم التوتر في علاقاتهما حالياً - سيواصلا عملهما الذي بدآ به منذ فترة، وتخللته فترات صعود وهبوط. ولكن لدي انطباع أنه سوف ينطلق من جديد هذا التعاون العلمي والثقافي». ما الهدف الذي تسعى د. أوريان وراءه من هذا العمل المضني، والذي بسببه تركت التدريس في الجامعة وتفرغت له؟ تجيب هي: «أنا أعتقد أن العالم المليء بالحروب، بحاجة لمن يقف ويصرخ بوجهه مناهضاً العنف والحرب. فالعالم يجب أن يقوم على علاقات طيبة بين أبنائه. وهذا من شأنه أن يبعد الحروب، وينشر السلام. هذه فكرة مهمة للإنسانية. وعلينا أن نسخر كل طاقاتنا في هذا المجال. وبما أن سورية غنية بالآثار ومن أجمل بلاد العالم، فيجب تنشيط الثقافة والسياحة فيها». الإعلام والحقيقة ورغم عشقها لسورية، فإنها تقول بأنها لم تعرفها على طبيعتها إلا حينما قدمت إليها. وقد أجابت على سؤال حول ضحالة معرفة الفرنسيين لسورية، بأن الإعلام هو الذي يلعب هذا الدور، وهو يتحدث عن مشاكل الشرق الأوسط، ولا يتطرق إلى الحديث عن سورية حضارة وتراثاً، رغم وجود صالات في متحف اللوفر مخصصة للحضارة السورية. وتابعت: «يجب أن نصوغ رأياً عن أنفسنا، لأن وسائل الإعلام تخيف الناس من السفر إلى منطقة الشرق الأوسط بسبب الحروب. لذلك أعتقد أن كل ما أفعله مفيد من أجل جلاء الحقيقة». تقصير مبرر انشغلت أوريان بمشاريعها في حماية دمشق القديمة وعمريت، ولكنها تعلم أنه عليها زيارة المناطق الأثرية وخصوصاً تلك التي تقع في الشمال السوري في إدلب وحلب. وتصرح أوريان بأن مشروعها العلمي معقد، وهي تحاول أن تساعد الطلاب السوريين للدراسة في فرنسا، كما تمنح الفرنسيين فيزاً للدراسة في سورية، لأن «هذا التبادل مفيد لتغيير التفكير. وعلينا أن نهتم بالطلاب في الجامعات والمدارس، ونعلمهم الاهتمام والمحافظة على الآثار». آراء بعد مكوثها ما يقارب العام في سورية، والعمل الجاد الذي تقوم به، استطاعت أوريان أن تتعرف إلى الشعب السوري، فأعلنت بفرح: «إنه شعب منفتح ذهنياً كثيراً، وذكي جداً، ولطيف ومضياف. التقيت بأشخاص كثيرين أذكى من أبناء بلدي. ولكن الأهم في سورية هو محافظة الناس على القيم، ومتانة العلاقات الأسرية. وأنا سعيدة لأني أرى أن هذا الشعب يحافظ على القيم التي نسيتها شعوب أخرى بسبب تغير الحياة. ورغم الأزمة بين بلدينا، فقد شعرت بأن السوريين يحبون فرنسا». أمنيات أطلقت أوريان مجموعة من الأمنيات، كان في مقدمتها أن ينضم متطوعون كثر إلى مشاريع حماية التراث السوري، لأن هذه المشاريع تعتمد على المتطوعين بالدرجة الأولى. ومن ثم تمنت على الحكومة ألا تنسى قراراتها التي تصدرها وأن تلتزم بها. وأخيراً تمنت أن يحافظ السوريون على آثارهم التي لاحظت أنه لا قيمة لها عندهم، ويجب تعليم الأطفال في المدارس تاريخ دمشق وسورية.
|