تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


آخــــر الـــوجـــــع إطــــــــار

ملحق ثقافي
الثلاثاء 16/1/2007
قصة: ربيعة ريحان/المغرب

أفكر أنني كنت لا أحب وجه الصورة القديم الذي كان على جدار بيتنا العتيق .. لا أحب سيفها المعقوف ولا ألوانها الضاجة أيضا .

كنت أرقبها وأنا أكور جسدي الصغير تحت اللحاف صافنة مستغرقة في تفاصيلها الغريبة جاهدة أن أربط بين الرجل القوي المكتنز القصير وصورة الأسد المخيف جنبه والأغصان المدلاة من حوله وطاحونة الانزعاج والشرود بداخلي . أذكر أن كل أحزان طفولتي وتلك الجراح السرية مرتبطة بها . أهرع إلى هناك ما أن أقع في شباك الصياغات السلطوية التي لا أفهمها . أبي يزجرني متصارخا وكذلك أخي وأمي ثم يشدونني من شعري بقوة .. عنفهم الواقع على قلبي مثل عقاب سخيف كان يدفع بي إلى أن أنزوي بعيدا حيث لا قدرة لأحد على استعادتي . أضحي بأكلي ولعبي وأنطلق على قطار الغضب فاقدة الرغبة في كل شيء بسبب الفرض والمنع والإرغام .‏

كانت غرفة منزوية باردة تليق بأن تكون مستقرا لزوبعة شتائمي الحانقة وطول لساني . ـ أنت أيتها الجنية .. ماذا تبركمين ؟؟.. يهبط الصمت علي حين يتناهى إلى سمعي صوت والدي القوي وهو يصرخ من مكانه سائلا .. أيتها الجنية !! .. نادرا ما كانوا ينادونني باسمي .. أنظر ببرود نحو الرجل في الصورة وأخرج له أصبعي الوسطى . أتركها لمدة منتصبة ممدودة نحو وجهه البعيد ولا أكلف نفسي مشقة طيها . . أمي تدعوني إلى ترك هذه العادة الوقحة .. تقسم من انزعاجها أنني إذا أعدتها ثانية ستفرقع كل أصابعي أو تهرسها واحدا وحدا تحت قضيب من حديد . وأنا صرت أفعلها ببرود حتى دون أن أفكر فيما إذا كان الداعي يتسع فعلا لكل ذاك الشطط . ـ والله يابنتي حتى نخليك بلا صباع .. أنظر نحوها بخوف وانتباه قليلا ثم يركبني عصياني . أتلفت في الجهات بحثا عن منفذ . أفكر ربما أفعلها معها هي أيضا بعد كل هذا التهديد الرهيب !! ..‏

كنت أضيق ذرعا بأخي . كان مجنونا متجاوزا للحدود راغبا دوما في إيذائي . يرسل قدمه الوسخة نحوي أو ينفلت راكضا خلفي ثم يشدني بيديه القويتين من ضفيرتي . يفعل ذلك كلما رآني ألهو مع رفيقاتي أو أجلس في وضع مريح . المؤسف لاأبي أو أمي تضايقهما تلك العادة أو يتوتران بعض الشيء من ضربه الساخن لي ومن صراخي . مرات عديدة كنت أقول في نفسي : هؤلاء ليسوا أهلي .. وأفكر أن على باطن يدي أن يكون مطواعا سريع الرد .. فكانت تلك الحركة الشافية مني تثلجني ، كما أنها بحجم انتقامي ومقاومتي . ـ سوف ترين !! ... يقول لي أخي بعد أن أمد له أصبعي . يتعب من ضربي على جسدي وهو يلهج كعدو مقيت . لم أعد طيعة أبدا ، لذلك شكلت لأمي هاجس هم دائم . توجهني يمينا فيكون علي أن أعكس شرطها بالمقلوب .‏

تبعث بي لقضاء حاجة فأتيه في صخب اللعب وأنسى وصاياها المتشددة لي . وفي ما بعد صارت يدي تمتد بالعداء لكل من حولي . صرت أسوي في الخفاء تلك اللسعات القوية بحلاوة في قلبي . أفعلها مع البنات والأولاد والنساء العاريات المكتظات في الحمام . أختار موقعا لقرصتي ثم أسربل ملامحي ببراءة صفيحية كسكينة الأطفال . لم يفطن أحد لي .. لكن مع المعاودة صارت أمي تدرك بعد صرخة المباغثة ألا أحد يجرؤ على حبكها غيري . ـ أنت أيتها الجنية ؟ أليس كذلك ؟؟... تسألني بخفوت مذهولة عاجزة بعد أن أكون قد أدخلت الرعب إلى قلبها .. تتلاشى الحدة من داخلي وتلين نظرتي . لماذا تشتكيني أمي ؟؟.. ماذا تراني أفعل وأنا أراهم يتجسسون علي ويضربونني ويراكمون حولي شهوة الأطواق والمعاني الحائرة مثلي ؟؟.. ـ تعالي .. قربي .. قابلة الحي العجوز البشعة التي لا تبتسم تناديني آمرة بصوتها الفاضح . تأتي في جولتها الاعتيادية لتطل على أمي . شيء ما من الأحاديث عن صلابتي جعلها تربط بين ذلك العناد وحدوث ثقب عبثي قد يحصل في مكان من لحمي لا يخصني . هي لاتفعل شيئا سوى أنها مغرمة بتوليد النساء وتثقيب الآذان وتفحص بكارات البنات وتصفيحها كذلك .. أخبط وأتلوى في مكاني وألف رأسي بين ساعدي وأصرخ . أتفوه في وجهها بشتائم صاعقة إذ يتوزعني الذعر والغرابة والألم . حين تنتهي تقذف بي إلى الأمام . أمي التي تساعدها على تثبيتي تضحك في صمت .‏

لا أدري إن كانت تفعل ذلك قصدا أم لتغطي على روح حرجها أمامي كي لا يبين . تقول العجوز لأمي بصوت واثق قبيح : ـ لاشيء بها الآن .. لكن انتبهي لها .. لم أر بنتا عاصية مثلها ؟؟... أسوي ملابسي وأشعر أنني غير قادرة على النظر إلى أحد . قلبي يخفق بقوة . أهرب إلى الحجرة الداخلية وألف جسدي الطفل في الملاءات الكثيرة . ألتصق بالفراش وأحتك به . أقوم بتلك الحركات العصبية اللاإرادية الصماء .. وحين أهدأ قليلا وأستعيدني أنظر بوحشة نحو الصورة الغامضة على الجدار . خلفي تتساقط صور أمي وأبي وأخي والجيران .. في الزمن المحفور في قلبي لاشيء يسمح بالحلم . رومانسية البنات كانت أمرا غريبا علي .. كن يمنحن أنفسهن لآهات عبد الحليم العارمة وتداعيات أغانيه الحزينة . ينظرن نحو الأولاد الجميلين برحابة ورغبة . الأولاد يقولون كلاما مثيرا وهن يبتسمن . كنت أحس أنني مذعورة ولا أعرف كيف أمسك على كل الضجيج بداخلي . أود أن أحزن وأتوجع ويلفني مثلما يلفهن إعصار العشق .. لكن صورا كثيرة كئيبة كانت تحل عند مستوى رغبتي كعلامات وقف زاجرة .. موجع صار جسدي وتفاصيلي المغطاة بركام فظيع من التوتر والأثقال .. زاد من حدتها بلوغي . ظللت منتبهة لي مرعوبة مني وعلي .. وحين جاءت الحيض كان قد حل على قلبي الوحل .. ظننت بهول أنني فقدت بكارتي . كانت نقطة دم غريبة ومميتة .. في لحظة حصل فصل بيني وبين حياتي .‏

صرت شيئا آخر غيري . بدا وكأنني مت في الثانية عشرة من عمري واستكنت . لأول مرة صارت تبدو لي أمي جسرا أخضر وعطر أمان . قلت لها بصوت خجلان خفيض : ـ انظري.. ارتعبت بدءا وهي تنظر إلى سروالي . خمنت على عجل فأسدلت هندامي . منعتني من الخروج بقول صارم : ـ إياك أن تخرجي وتنكشفي بلعبك الغبي فيتفرج عليك الخلق . وجدتني بانقياد أطيعها تماما . خفت من إمكانية حصول فضيحة . حين عاد أخي تصورت في لحظة أنه إن دنا مني سيكشف ما بي . شعرت أنني مذنبة بحقه بإقبالي خلسة على عالم هو لايدريه . كأنني مدنسة بشيء أو كأنني خنته . شيء آخر صرت واحدة عليها في الأيام الثلاثة الأولى من كل شهر أن تغرق في النظافة والتطهير . أقلعت بأريحية عن عادة إغضاب الكل وعادة مد أصبعي الوسطى إليهم ولم تعد بي رغبة في توقيع قرصاتي الحذرة اللاسعة على الأجساد الشاردة من حولي . كانوا غير مصدقين لهذه القابلية السريعة للتغيير .. ووحدي حين صرت أنزوي لأسباب أخرى أبعد عن الغضب في الغرفة المعتمة الباردة .. كنت أهجع وأنا أحاول فك فخاخ أسئلتي .. كان التفكير يطوح بي إلى حدود أخرى . صرت أتحسسني بوداعة في أكثر من موضع من أنوثتي وأنا أنظر إلى الصورة خلفي على الجدار . لم تعد تشعرني بالفظاظة . نبض آخر يعبرني .‏

تهادنت مع وجه الرجل المزدان بالقساوة والهدوء . صرت أخفي نفسي عنه في عريي وأخفي نتوأي صدري وأنا أغير ملابسي . أرفع رأسي نحوه ثم أسبل عيني وأبتسم . أتساءل في صمت كيف أبدو له بملابس النساء الضاجة .. ملابس أمي الطويلة التي كنت آخذها سرا لأقيسها هناك !! .. بعد ذلك بوقت طويل حين مات أبي وكان الآخرون يأخذون أشياء البيت الكثيرة .. لأمر ما وجدتني أفكر في الصورة التي على الجدار في الغرفة الباردة المنسية . انزرعت بذهني هكذا فجأة .. أنزلتها بتلف الألوان المطفأة على سطحها من الجدار الأجرب الخرب .. كانت إرثي الاختياري الممكن الوحيد في دوامة اللغط والحساب . قطعة أثرية بيني وبينها تاريخ ووجع . لمستها . كانت واهنة طيعة رطبة . عفتها قليلا وكدت أمزقها فحاصرني الغموض . وجدتني بحذر أفكر في بروزتها وإعادتها إلى مكانها .. بدا لي الجدار في لحظة من غيرها عامرا بقوة بالفقد والرحيل ..‏

تعليقات الزوار

بسام الطعان |  bassamtaan@yahoo.com | 17/01/2007 18:52

شكرا لك يا ابنة المغرب الجميلة على هذا الابداع الجميل شكرا لك يا ريحانة الأدب العربي ايتها المنتمية الى عناقيد العنب

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية