هيئة المؤتمر القومي الإسلامي على امتداد بضع السنوات الماضية, وكما أوضحنا في مقدمة هذه الدراسة, يمكن اعتبار هذه التجربة عملا فريدا من نوعه, وإذا أمكن تفعيلها في المستقبل للتوصل إلى تحرك نضالي نوعي في مواجهة الأخطار المحيقة بالمنطقة العربية والإسلامية, فإن ذلك قد يكون خطوة ذات شأن في تحول كفاحنا ضد الحملات الرهيبة المتربصة بالمنطقة من كفاح شبه سلبي قائم على الاحتجاج اللاحق وردود الفعل المبعثرة- على الرغم من التضحيات النبيلة- إلى جبهة مواجهة شاملة ذات استراتيجية متماسكة وحريصة على تسجيل نقاط إيجابية ملموسة في المواجهة المستعرة, وذلك من خلال توحيد جهود الأمة وطاقاتها وتحديد أهدافها واستباق الأحداث ومواجهتها قبل وقوعها, والعمل أولا على إيقاف مسلسل الخسائر الاستراتيجية التي منيت بها المنطقة في بعض ساحات المواجهة, مع العمل على تنسيق الموارد والخطط والجهود في داخل كل ساحة وكذلك فيما بين الساحات, وهي مهمة من السهل أن تلفظ نظريا ومن الصعب جدا التوصل إليها لاعتبارات كثيرة ولكنها خطوة لا بد منها لتقليص حجم الخسائر والتوصل إلى نتائج إيجابية ملموسة.
وقد حملت الدور بشائر خير تدل على أن الاتفاق حول استراتيجية موحدة أصبح ممكنا بعد أن أبدى الطرفان القومي والإسلامي رغبة صادقة في تخطي كثير من الحواجز التي فصلت بينهما في الماضي وحالت دون تجنيد طاقات الأمة في وجه العدوان اليومي الشرس الموحد على المستوى الدولي تحت شعار (الحرب على الإرهاب) ويبدو أن الطرفين القومي والإسلامي قد اقتربا من الاقتناع الحقيقي بأن أي طرف منهما لا يستطيع أن يتحمل أعباء النضال وحده على الرغم من ظاهرة الاستعداد الدائم للتضحية والاستشهاد في صفوف أبناء الأمة المخلصين, وهذه بادرة خير يحسن الإسراع في استثمارها من خلال اتفاقات واضحة وبرامج محددة.
وهكذا على صفحة التفاؤل في الدورة السادسة يمكن أن نسجل الإيجابيات التالية:
أولا: الحرص الذي أبداه كل مشارك على إنجاح المؤتمر من خلال تجنب التناقضات والتصنيفات المنمطة الموروثة من مراحل سابقة.
ثانيا: حرص المداخلات على الموضوعية والاعتدال والبعد عن الاستثارة والنبرة الخطابية, ولقد كانت الموضوعات المطروحة على الدورة حساسة جدا, ومن شأنها أن تثير ردود فعل حادة, ولكن تعمد معظم المشاركين اختيار النبرة الهادئة وتجنب الإثارة, وبالفعل لم يسمع صياح أو جدال عنيف ( وهي ممارسة اعتدناها في الاجتماعات السياسية السابقة باستثناء حالات نادرة) وينطبق ذلك بقوة على الجلسة العامة وعلى معظم جلسات اللجان المتخصصة.
وصحيح أن الجدال احتدم بدرجة واضحة في الجلسة الختامية عند بند اختيار المنسق العام, ولكن جرى فيما بعد تقبل النتيجة بروح طيبة تبشر بالخير, وقد أسهم الإخوة المرشحون لمركز المنسق العام في تهدئة الجو من خلال انسحابهم الحصيف بحيث أمكن اختيار الأستاذ الباحث منير شفيق بالتزكية, وهو إنسان معتدل وله باع طويل في مسائل التنظير للكفاح الوطني من خلال تجربته الفلسطينية والعربية المتكاملة.
ثالثا: في فترات الاستراحة أيضا لم تتكرر المشاحنات والمناقشات الحادة التي ألفناها سابقا في الاجتماعات السياسية للحركات النضالية وكانت هناك رغبة عامة في التعارف والتفاعل البناء بين الفصائل وحتى على مستوى الأفراد توصلا إلى الهدف المشترك على أساس التصالح وسعة الأفق ونبذ الاختلافات الفرعية, والمرجو أن تصمد مثل هذه الأجواء الإيجابية عند الانتقال إلى وضع الخطط والبرامج المشتركة ذلك أن كل ما تقدم سوف يوضع تحت المحك عند الانتقال من النوايا الحسنة إلى الأفعال المنظمة التي هي الامتحان الحقيقي.
رابعا: كان هناك إجماع لدى جميع المشاركين, ربما دون استثناء, على وحدة الأمة بكافة مكوناتها الإسلامية والمسيحية والمذهبية والإثنية وعلى رفض كل المحاولات التي تسعى إلى تفتيت نضال الأمة وتمزيقها إلى طائفية سياسية, كما ورد في توصيات المؤتمر, وكان هناك توجس من خطورة الظاهرة التمزيقية المرعبة التي بدأت تذر قرنها في الحياة العربية والإسلامية, وكان للمناداة الجريئة التي قدمها فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي وسماحة المطران عطا الله حنا بشأن التلاحم الإسلامي المسيحي في الإطار العربي, كان لهذه المناداة المخلصة الواضحة أثر كبير في إزالة كثير من التساؤلات وبالمناسبة كان الاجتماع حافلا بشيوخ مسلمين يمثلون حركة حماس وحزب الله, كما كان فيه مناضلون مسيحيون فاعلون في مختلف الحركات الثورية, ودارت بعض الهمسات على استحياء شديد (ولا سيما عن بعض العلمانيين وليس المسيحيين بالتحديد) بشأن حصر التسمية الدينية بكلمة الإسلامي, وكانت الأجوبة واضحة في كلمات الشيخ يوسف القرضاوي الذي كان موفقا جدا في الشرح غير المباشر لمصطلح الإسلامي إذ حمله دلالات ثقافية وجغرافية عامة إضافة إلى مضمونه الديني الخاص, كما أن المطران عطا الله حنا ابن القدس البار والمناضل الفلسطيني العنيد كان واضح النبرة في تأكيد وحدة النضال الإسلامي المسيحي, وحلق تحليقا ذكيا حين أعلن (باسم الكنيسة الأرثوذكسية) تجديد بيعة المطران سفرانيوس لخليفة المسلمين عمر بن الخطاب بشأن مدينة القدس.
خامسا: كان تقرير لجنة العلاقة بين التيارين القومي والإسلامي في المستوى المطلوب من هذا اللقاء الحافل وقد صيغ صياغة واضحة ولا سيما في التفاته إلى النضال الداخلي وفي تركيزه على المسؤولية الوطنية والقومية التي يجب أن يضطلع بها الجهد المشترك للتيارين في مواجهة الفساد والاستبداد في أغلب البلدان العربية وإحداث التغيير السياسي والديمقراطي, وبالمقابل يلاحظ أن اللجان الأخرى وهي لجان تتعلق بالمسائل الثورية, في أقطار المشرق العربي والمغربي غلبت على تقاريرها نقاط الإصرار النظري على الثوابت القومية والوطنية, وغابت عن معظمها (وليس كلها) الحلول والبرامج والأولويات,ونادرا ما لمسنا فيها تركيزا على التفكير المرحلي وهذه مشكلة متكررة في المؤتمرات النضالية العربية, كأنما جميع الأمور يمكن أن تحل بضربة سحرية واحدة, ويكفي الإنسان أن يتأمل التعقيدات المتوالدة لقضية مثل القضية الفلسطينية أو لواقع مثل الواقع العراقي ليدرك أن التحدي النظري القائم هو تحدي تصنيف الأولويات من خلال استراتيجية الأهداف القريبة الممكنة التي يراد لها أن تمهد الطريق للأهداف الكبرى العامة بوصفها مرحلة تالية لتحقيق النصر في الأهداف المرحلية, وعلى أي حال يجب ألا تعتبر هذه الملاحظة نوعا من الانتقاص للجهود التي بذلت في اللجان للتوصل إلى قناعات مشتركة وضمن مهلة زمنية قصيرة, وفي رأينا أنه يستحسن في الدورات القادمة أن يوضع تقرير أو مشروع لكل لجنة يحتوي على المؤشرات الأساسية للقضية المطروحة على حدود الأعمال لتكون منطلقا للنقاش ولتسهل التركيز على أولويات المرحلة بطريقة يمكن أن توصل تدريجيا إلى نتائج ملموسة.
خاتمة: الدورة السادسة للمؤتمر انتصار للمجتمع المدني
لا بد من التأكيد أن هذه الدورة السادسة للمؤتمر القومي الإسلامي تمثل خطوة مهمة في مسيرة النضال الذي تخوضه الأمة في سبيل التحرر والوحدة والتقدم, كما أنها تمثل خطوة مفصلية في كفاح المجتمع المدني في المنطقة لإشهار تطلعات الشعب ودوره في مواجهة مؤامرت تفتيت وحدة المنطقة من خلال إثارة النعرات الطائفية والإقليمية والعرقية فيها وتمهيدا لمحو هويتها والاستيلاء على مواردها وفرض الهيمنة على إرادتها.
وقد آن لهذه المبادرة الشعبية المستقلة أن تأخذ دورها وتتولى مسؤولياتها في إعلاء صوتها والمشاركة في حل القضايا المتعلقة بمصير الأمة المشترك.
ويحمد للمؤتمر القومي الإسلامي حرصه على إبعاد التدخلات السلطوية في مسيرة عمله, والحرص على اختيار قادة مسؤولين عن نشاطات المؤتمر بشرط أن يكونوا بعيدين عن السلطات التنفيذية في بلدان المنطقة العربية والإسلامية, وهذا لا يعني بالطبع إعلان حرب على الأوساط الحاكمة ولكنه يعني أنه آن الأوان لمجتمع المنطقة العربية الإسلامية أن تكون له كلمة مسموعة في إدارة شؤون المنطقة واتخاذ القرار اللازم والإجراءات الضرورية المتعلقة بمصير الأمة وتطلعاتها إلى الحرية والديمقراطية والعيش الكريم, وفي الدورة السادسة تجلى هذا الحرص واضحا في عدم السماح لأي مسؤول سياسي رسمي أن يشارك في أعمال الدورة بل جرى في أكثر من حالة اعتذار واضح لسفراء أو ممثلي سفارات بعض الدول العربية عن عدم السماح لهم بدخول قاعات الاجتماعات وهذه خطوة مهمة تسجل للقائمين على المؤتمر.
ختاما يجدر التأكيد ثانية أن هذه الدورة حملت بشائر نقطة انعطاف في مسيرة المؤتمر القومي الإسلامي وإن المناخ العام كان مناخ تفاهم وشعور بالمسؤولية الملقاة على عاتق المجتمع المدني وحقه في مباشرة العمل لقضاياه من خلال تآلف جماعي شعاره إنقاذ الوطن والأمة وشق طريق المستقبل المنشود بسواعد جماهيره المخلصة.
ويقتضي الإنصاف أن نشير إلى أن هذا المناخ السليم وتلك النتائج المشجعة التي توصلت إليها الدورة السادسة ما كان لها أن تتبلور على هذه الشاكلة لولا جهود مخلصة وتضحيات واعية قامت بها إدارة المؤتمر القومي الإسلامي, إنه لقاء لا كغيره من اللقاءات وتجربة فريدة في تاريخ توحيد النضال العربي والإسلامي وقد اختير لرئاسته بالإجماع الدكتور محمد المسفر الذي حرص على التوفيق بين الحزم الضروري واللطف الذي لا بد منه في مناسبة كهذه لا تصح فيها إلا الحكمة العربية السائرة: لا تكن لينا فتعصر ولا صلبا فتكسر.