الذي يكمن جماله في بساطته وبما ينشر من عبق التاريخ .
الرقة حاضرة وادي الفرات, وينبوعه الثر المعطاء ومصيف هارون الرشيد, وملكه الزاهر, وسلطانه واسع الرقعة,الذي يفيء إليه صيفا بعيدا عن الصخب ومشاكل الخلافة, والطاعون .. ناهيك عن غناها بأرضها الزراعية الخصبة وبآثارها وتلالها التاريخية, وعيونها وشعبها الطيب البسيط.. ولقد ارتبط اسمها بالصورة المشرقة للعصر العباسي وخاصة بالايام التي كان يسميها الناس في زمنها ايام العروس وهي ايام هارون الرشيد.
ومع ان ألفاً ومائتي سنة مرت بعد هارون الرشيد, فإن زائر الرقة هذه الايام, يدخلها متصوراً اياها كما تصفها الاغاني او ألف ليلة.. فإذا اصطدم بالواقع توجه الى اهل البلدة متسائلا,ومستنكراً ومتهماً:
ألستم انتم الذين احلتم هذه الجنة الوارفة الظلال الى بيداء قاحلة?!
فأبناء الرقة المعاصرون يعتزون بمجد الرقة القديم, ويعلمون تماما ان الرقة القديمة قد زالت من الوجود بعد غزوات التتار.
لقد كان آخر العهد بالرقة كمدينة عامرة هوعام 773هجرية 1371 ميلادية حين اخلاها اهلها فجأة امام جراد جيوش تيمور لنك المنتشر فتفرقوا بدداً في ارض الله الواسعة, وبذلك اقيمت مدينة الرقة من الوجود. ومحيت منطقة بلاد ما بين النهرين من عداد المناطق المتحضرة, واستحالت تلك الارجاء المزدحمة بالسكان والعمران الى صحراء مقفرة خلال خمسة قرون متتالية.
نعم لقد امحيت مدينة الرقة القديمة, بسكانها وعمرانها, منذ خمسة قرون.
في هذه القرون الخمسة يبست الاشجار,وتهدمت السدود على الفرات وروافده , وجفت الانهار.
فالخراب يجر الخراب .. لم يبق من اهل المدينة أحد, بل اصبحت واصبح ما حولها مسرحاً للقبائل البدوية تنتقل بين بقاعه في انتجاعها للكلأ, وتتخذه ميدانا لغزواتها او حروبها.
وفي طريقك اليها, يلتقيك عند نقطة من هذا الطريق تدعى ( المقص) يتفرع شارع طوله ستة كيلو مترات في اتجاه الشمال الشرقي ليتصل بجسر حديث البناء على الفرات, يؤدي مباشرة الى مدينة الرقة, وتعتمد الرقة على نهر الفرات العظيم الذي يقذف في كل نصف دقيقة من الزمن ما يكفي لاستهلاك مدينة كبيرة في كل يوم.
لهذا قامت على ضفتيه زراعة كثيفة, يحتل القطن فيها مكان الصدارة, ويتلوه في الانتاج القمح-ذهب المستقبل- والخضار بأنواعها.
ويعود اقدم بناء مسكون في الرقة الحاضرة, كما ورد في مقالة للدكتور عبد السلام العجيلي القاص المعروف وابن هذه المدينة: ( لا يرجع الى ابعد من عام ( 1305-1887م) بمعنى ان عمر الرقة كما يقول العجيلي : يتجاوز قرناً ونيفاً.. ولقد وصلت الرقة الحديثة في تطورها منذ انشائها حتى الآن وبطريقة عفوية, ودون تخطيط مسبق, الى نتيجة يمكن ان تعد مقبولة لأية بلدة حديثة.
فالرقة, بعيدة عن عدسة الاعلام, قريبة من عدسة القلب حين تزورها , تشعر بالالفة حين تتجول في ساحاتها وشوارعها التي يتوزع على بعض ارصفتها القادمون من البادية, والريف, بأزيائهم, وعاداتهم, وبضائعهم يبيعون ويتسوقون قبل الرحيل..
لا يمكن ان تدعي انك زرت الرقة ولم تزر كاتبها ومخلدها في اعماله الادبية, الدكتور عبد السلام العجيلي , طيب الله ثراه حيث تجده لا ينشغل عنك ولا بك وهو يستقبل مرضاه ويشرح لهم بالرقية المحكية حالتهم المرضية, وطريقة استعمالهم للدواء وحينها يلتفت اليك يتابع حديثه معك بمحكية المثقفين .
هذا الاديب الذي افتقدناه واخلى علينا غيابه فهو يعد حقيقة علماً من اعلام سورية المبدعين, ومن ابرز كتاب القصة القصيرة في الوطن العربي وممن خاضوا تجارب عديدة ومتنوعة في الحياة سواء في الجانب الادبي او الشخصي.
فالاسفار والعلاقات الانسانية والعمل والكتابة الادبية, ومستجدات الحياة اليومية, وما يعتريها من احداث- جميعها لها مكانة خاصة لدى الكاتب!.
فالعجيلي رحمه الله يتناول الحكاية ليحكيها بطابع قصصي مستوحيا شخوصها واحداثها من التراث العربي القديم ويبدعها في حلة جديدة ومشوقة كما في مقالاته.. فعندما يتناول حدثا ما, سواء من خلال مشاهدة عابرة اوزيارة خاطفة نتيجة اسفاره فإنه يصوغها بحدس الكاتب المتمكن العارف بما سترمي اليه هذه المقالة بأسلوب ممتع يغلب عليها - ايضا-الطابع القصصي.. وخوضه تجربة الادب الساخر, وصياغته بقالب ادبي ينم عن ادراك الكاتب, وغنى ثقافته ومقدرته على تناول جميع صنوف الكتابة, وتبسيطها للقارئ كل في مستواه الثقافي وهذا ما جعله قريبا من قلوب القراء ومتابعتهم لكل ما يكتبه من قصة ورواية ومقالة.
وعندما نغوص في اعماق ما كتبه العجيلي فإن معظم ما تناوله نابع من التراث اولا, والبيئة الفراتية الغنية ثانيا,والتي اغنت ثقافته الفكرية,واسهمت في ابداعاته وفي غزارة انتاجه, وبالتالي خرج بنتاج ادبي متنوع يندر تناوله وهذا هو مفتاح نجاحه وشهرته.. اضف الى ذلك مطالعاته الدائمة في بطون امات الكتب في سني دراسته الاولى ومتابعته لما يكتب , وحفظه للشعر العربي القديم, وما يملكه من حس ادبي منذ اليفاعة أضفى جميع ذلك على عطائه الابداعي واغناه.
كما لا يفوتنا ان نذكر بالعديد- ايضا- من المهتمين في الجانب الادبي, والتراث الشعبي وكتابها المبدعين من الشعراء الشباب,وغيرهم كثير ممن تراه دائب الحديث عن التراث الغنائي الفراتي ويأسه لابتعاد اضواء الاعلام عنه .