وقد تصدرت تلك التحركات الوجود المتواصل في سورية والعراق وأفغانستان والصومال والنيجر وكل مكان في إفريقيا وعمليات دعم القتال في اليمن. وفي حين يعرب الرئيس دونالد ترامب عن رغبته بإنهاء «الحروب الأبدية» نجد أن تصرفاته تنم عن توجهه نحو زيادة في أعداد القوات الأميركية في الشرق الأوسط.
لم تُمنَ عمليات الانتشار القائمة في المنطقة بالفشل في تحسين وضع الأمن القومي الأميركي فحسب بل أضعفته أيضا. إذ تحدونا رغبة ملحة بسحب تلك القوات كافة بدلا من إعادة ترتيب مواقعها في المنطقة.
عقب مكالمة هاتفية أجراها ترامب مع رجب اردوغان مطلع هذا الشهر، أطلق الرئيس الأميركي العنان لحالة من الفوضى وذلك عندما أمر على نحو مباغت القوات الأميركية في سورية إلى جانب شركائهم الأكراد بالانسحاب الفوري وإعادة تموضعهم في الجنوب. وعلى الفور عمدت تركيا إلى شن هجوم عسكري شمال سورية لتشكيل ما سمته «المنطقة الآمنة» بغية الدفاع عما تدعي أنقرة أنه إجراء «لمنع الإرهابيين في شمال سورية من التسلل إليها»
ورغم أنني أول شخص يقول أن تعاطي ترامب مع الوضع القائم يتسم بالوحشية، إلا أنني أرى في تصريحه الأول المتعلق بالانسحاب من سورية تصرفا صائبا.
لقد سبق للرئيس باراك أوباما التدخل في سورية دونما الحصول على تفويض من الكونغرس، وكانت تلك المهمة محكوم عليها بالفشل منذ بدايتها. وما يجدر ذكره، أن أوباما لم يقدم للبنتاغون هدفا عسكريا محددا قابلا للتحقيق علما أن الشفافية في هذه الحالة تعد في غاية الأهمية بالنسبة للقوات المقاتلة إذ أنه دون معايير واضحة المعالم فليس ثمة طريقة للتعرف على الزمن اللازم لتمكن القوات من إنجاز المهمة المنوطة بها، وبذلك فإن مدة بقاءها تبقى في ضمير الغيب.
إن ترامب الذي أصبح قائدا للقوات في عام 2017، زعم أن هدفه العسكري مساعدة مايسمى «قوات سورية الديمقراطية» في طرد تنظيم داعش مما يسمى «عاصمة الخلافة» في الرقة وفي الوقت الحاضر لم يعد ثمة سبب لعدم إعادة القوات الأميركية إلى بلادها. لكنه سمح ببقائها مضاعفا في ذلك الخطأ الذي ارتكبه أوباما. وكانت النتيجة متوقعة على نحو مخيب للآمال إذ جرى توسيع هذه المهمة.
وتقوم المهمة الراهنة وفقا للرئيس الأميركي على حماية الأكراد والحيلولة دون إعادة ظهور داعش، لكن معضلات جمة تحيط بتحقيق هذه الأهداف. ومن وجهة النظر العسكرية، فإن كافة الأطراف تعاني من ذات المشكلة لأنه ليس ثمة معايير للنجاح أو الفشل. ومن المؤسف اهتمام ترامب باستمرار اللعبة من خلال زيادة عدد القوات في الشرق الأوسط بدلا من صب اهتمامه على إنهاء «الحروب الأبدية» كافة.
غداة تصريح ترامب بانسحاب القوات الأميركية من الأراضي سورية مطلع شهر تشرين الأول، صرح وزير دفاعه مارك سبنسر خلاف ذلك قائلا أن بعض القوات ستبقى والآخر سيصار إرساله إلى العراق, ومن ثم ظهر تصريح فجائي لسبنسر في أول يوم جمعة من ذاك الشهر كشف به عن استعداد البنتاغون إلى إرسال قوات أميركية باتجاه الجنوب الشرقي من سورية بغية الدفاع عن حقول النفط السورية. وأكد ترامب تلك الخطة في مؤتمر صحفي تبعه يوم الأحد.
ولكوني كنت ضابطا في سلاح المدرعات، أخبركم أنه في حال جرى هذا الانتشار فلن يكون على مستوى ضيق. إذ أن عدد القوات والدبابات اللازمة للدفاع عن حقول النفط سيبلغ رقما كبيرا. علما بأن الدبابات تستهلك كمية هائلة من الوقود وتتطلب إصلاحات مكلفة فضلا عما تستلزمه الوحدات من امدادات لوجستية مستمرة.
سبق لي أن شهدت الحرب بالدبابات إبان عملية عاصفة الصحراء، كما راقبت عمليات الإمداد الكثيفة التي أجريناها للمراكز المعزولة في أفغانستان. وما يجدر ذلره أن تلك العمليات محفوفة بالمخاطر لكونها معرضة لهجمات العدو. بالإضافة إلى ذلك فإن تموضع القوات الأميركية لسرقة النفط السوري سيجعلها عرضة لمخاطر جمة دون أن تجني أميركا فوائد بالغة وذلك ينطبق أيضا على جميع العمليات القتالية في الشرق الأوسط.
في مطلع هذا الشهر، أعلنت القوات الجوية انتشار الفصيل سترايك إيغل إف 15 الذي أرسل من قاعدته في إنكلترا إلى الإمارات العربية المتحدة، وفي ذات الحين وجه به ترامب بإرسال العديد من الجنود والطيارين إلى السعودية. ومنذ بداية هذا العام، عمدت الولايات المتحدة إلى زيادة عديد قواتها في الشرق الأوسط بحوالي 14000 جندي، علما أن عدد الجنود الأميركيين في السنوات الأخيرة يتراوح بين 45000 و60000 رغم أنه ليس ثمة من مخاطر يواجهها الأمن الأميركي لتبرير انتشار هذه الأعداد الهائلة.
لم يعد خافيا على أحد أن ترامب لم يف بوعوده إذ أنه لم يعمد إلى إنهاء أي نزاع ورثه بل أنه وجه بزيادة أعداد الجنود الأميركيين في الشرق الأوسط. وفي الأحوال التي يتخذ بها قرارا بإرسال دبابات إلى سورية فإن هذا الرقم سيتزايد أكثر.
لا شك أن أيا من عمليات الانتشار لا تحمل في مضمونها أية أهمية للأمن الأميركي وازدهاره. لكن بمقدور ترامب التغلب على هذا الواقع السلبي من خلال القيام بانسحاب كامل من سورية، وإعادة كافة القوات الأميركية من العراق إلى الوطن، وإنهاء الدعم الأميركي للتدخل العسكري المدمر الذي ينضوي تحت القيادة السعودية في الحرب على اليمن. كما أنه بإمكاننا رصد داعش والتهديدات التي تشكلها التنظيمات المماثلة عن بعد على غرار ما حدث في الغارة التي أدت إلى مقتل زعيم داعش أبو بكر البغدادي.
في نهاية المطاف، فإن انتشار العمليات القتالية لا يصب في صالح الأمن الأميركي، وقد حان الوقت لإنهاء تدخلنا في الشرق الأوسط، كما وأن الضرورة تستدعي إعادة جنودنا إلى وطنهم.