بل خسر السودان جنوبه ولم يربح السلام، وبدأت المشكلات بين الدولتين تطل برأسها من جديد.
هذا وبالرغم من أن قوات الجنوب انسحبت من (هجليج) بعد أن كانت قد سيطرت عليها، فإن الأزمة بين البلدين لم تنتهِ، بل طرحت عدة استفهامات حول انعكاسها على العلاقة بينهما.
مراهنات متناقضة
بداية لا بد من القول بأن أحداث /هجليج/ هي إحدى محطات النزاع السياسي بين الشمال والجنوب إلى جانب محطات أخرى سابقة مثل /أبيي وجنوب كردفان وجبال النوبة/ وغيرها، إذْ إنَّ كلتا الدولتين تسعى إلى إثبات الوجود وامتلاك أوراق للضغط والمساومة وتعويض تبعات وتداعيات الانفصال السياسية، إلا أنَّ هذه المحطة أي (هجليج) متميزة عن مثيلاتها من المحطات الخلافية من خلال /بعدها القانوني/، والمُتجسّد في أن أحداث هجليج كانت اعتداءً صريحاً من دولة الجنوب على أرض شمالية خالصة دون سابق إنذار، وبالتالي وُصِف هذا الاعتداء بأنه اعتداء مُسلَّح على دولة عضو في الأمم المتحدة.
والسؤال المطروح هو: هل تجاهلت حكومة (سلفاكير) هذه الأمور وغلَّبت الأبعاد السياسية على الأبعاد القانونية؟ وما هي الدوافع لهذا الصراع التي جعلت دولة الجنوب تُقِدِم على مثل هذا العمل المخالف للقانون الدولي؟ وهل شجع الوضع السياسي للشمال حكومة (جوبا) على ذلك؟ من خلال استقراء ما حصل يتضح أنَّ دولة الجنوب تجاهلت البعد القانوني للمسألة، وردود السودان الشمالي، مراهنةً على بعض الأمور أهمها:
1- الرغبة في التغطية على الأوضاع السياسية السيئة في الجنوب بعد الانفصال وفشل حكومته في تثبيت دعائم الدولة الجديدة، وحتى تحقيق المصالحة بين الفئات والقبائل الجنوبية، وصعوبات تحويل الحركة الشعبية من حركة مسلحة إلى حركة سياسية تمارس دوراً جديداً فاعلاً في إطار الدولة، وفشل حكومة (سلفاكير) في تحقيق حلم المواطن السوداني الجنوبي الذي تصوّر أن الانفصال سيقترن بالخدمات والتنمية التي حُرم منها لعقود طويلة، وبالتالي أرادت حكومة /سلفاكير/ تصدير مشاكلها للشمال وتحميل الخرطوم مسؤولية تدهور أوضاع الجنوب.
2- المراهنة على ردّ فعل ضعيف من حكومة الخرطوم التي تعاني هي الأخرى من مشكلات اقتصادية وسياسية نجمت عن الانفصال، وتشتيت جهود القوات السودانية المسلحة في الشمال بين الشرق ودارفور والجنوب، وحماية النظام من إمكانية انتقال عدوى الأحداث في مصر وليبيا وتونس إليه.
3- المراهنة على مساندة دولية لحكومة (جوبا) خاصة مساندة أمريكا وأوروبا التي لا تزال تعادي /البشير/ مقابل علاقات طيبة مع الجنوب، مما يسمح لحكومة /سلفاكير/ بمساومة الشمال على ملفات أخرى مثل /أبيي/.
مكاسب وخسائر
لا شك بأن عملية /هجليج/ أدت إلى مكاسب وخسائر للطرفين، ومن المفيد الوقوف عليها لاستخلاص بعض الدروس والعِبر منها للتعامل مع الشأن السوداني مستقبلاً وذلك على النحو التالي:.
- شكلت حكومة /سلفاكير/ الخاسر الأكبر في هذا الصراع، لفشلها في تحقيق أهدافها المرسومة، فقد فشلت في إدارة الصراع سياسياً، وفي الحصول على دعم دولي أو إقليمي لها، وفي حشد القوى السياسية في الجنوب خلفها لعدم اقتناع العديد من الأحزاب والقوى الجنوبية بهذه الخطوة.
بالمقابل نجحت الخرطوم في التعامل السياسي مع الأزمة بتركيزها على أن ما حصل هو اعتداء صريح على مناطق شمالية لا نزاع عليها، ونجحت في حشد الموقف الداخلي الشمالي حولها أيضاً.
- الموقف الدولي عامة والأمريكي خاصة مما حصل، فلأوّل مرة ترفض واشنطن تصرفاً جنوبياً بهذا الوضوح والحسم، وتسمح للأمم المتحدة بإدانة هذا التدخل الجنوبي، والمطالبة بالانسحاب الفوري لقوات الجنوب من /هجليج/. وجاء هذا الموقف الأمريكي خوفاً من أن تأييد احتلال هجليج سيُقوِّضُ الاستقرار والأمن في المنطقة، خاصة إذا تطور النزاع إلى حرب شاملة، وأدَّى إلى نمو بؤرٍ وتنظيماتٍ إرهابية على غرار ما حصل في /الصومال ومالي وموريتانيا/.
- قامت مصر بدورٍ واضحٍ لإنهاء الأزمة عبر الزيارات والاتصالات المصرية مع قادة الدولتين، ومع قادة دول أفريقية مجاورة، ومع واشنطن، كما توسطت لإنهاء ملف أسرى محتجزين لدى البلدين.
مستقبل الأوضاع
هذا ويُجْمِعُ العديد من المحللين السياسيين والعسكريين على أن الأوضاع في السودان شمالاً وجنوباً ستظل تتراوح بين الاستقرار والتوتر لسنوات قادمة، فمن جهة مراهنة الشمال على إبداء الود للجنوب، لم تحقق الود والاستقرار والثقة المأمولة وإمكانية إعادة الوحدة بين الدولتين، كما لم تتحقق للجنوبيين أحلامهم الوردية في دولتهم الجديدة من جهة أخرى.
على أي حال فإن تبعات وتداعيات أحداث /هجليج/ سيكون لها آثارها على النحو التالي:
- ستُضعف هذه الأحداث الموقف السياسي الداخلي للحركة الشعبية في الجنوب باعتبارها المسؤولة عن تفجير هذه الأحداث، وبالتالي إضعاف الموقف السياسي لحكومة /سلفاكير/، وهذا ما يفتح المجال أمام احتمالين اثنين:
أولهما: تكرار ما حدث من قبل /سلفاكير/ على أمل تحقيق نصر على الشمال وربما في ملفات أخرى.
والثاني: استيعاب /سلفاكير/ لما حدث وعدم تكرار هذه التجربة مرةً أخرى.
كذلك من المتوقع أن تُواجه /حكومة سلفاكير/ ضغوطاً داخلية من تبعات ونتائج عملية /هجليج/ إمّا من داخل الحركة نفسها وإما من قوى سياسية أخرى، ما يؤدي إلى زيادة حدّة الانقسام السياسيّ الجنوبيّ، وصولاً لمحاولات تنفيذ انقلاب عسكري.
- حققت حكومة الخرطوم نصراً سياسياً وإعلامياً مهماً على دولة الجنوب من خلال عملية /هجليج/، الأمر الذي قوَّى موقف حكومة البشير، وبالتالي فمن المتوقع أن يكون موقف حكومة الخرطوم في أي مفاوضات مُقبلة مع حكومة الجنوب أكثر تشدّداً، استناداً إلى موقف سياسي داخلي قوي، وإلى مساندةٍ شعبيةٍ للنظام الذي أكد قدرته على حفظ حدود الدولة من أي اعتداء خارجي.
- سيبقى الموقف الدولي عامة والأمريكي خاصة عاملاً مؤثراً في مسار الأوضاع المستقبلية في السودان، خاصة أنَّ أميركا تسعى لإبقاء الاستقرار في المنطقة ريثما تنتهي ملفات مصر وليبيا وسورية وإيران وبالتالي سيؤدّي هذا الموقف إلى عدم دخول الطرفين في حربٍ شاملة، وإنْ كان ذلك لن يمنع حصول بعض المناوشات والتوترات بينهما، كذلك يبقى الدور المصري فاعلاً ومؤثراً في مسار الأحداث في السودان حاضراً ومستقبلاً.