تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


جذور تكفيريّة

ثقافة
الأربعاء 18-7-2012
عبدالكريم الناعم

- 1 -لكلّ زمن ملامحه،،حتى حين يصعب تمييزها، ولا يلفتنا عادة إلاّ الأزمنة التي تتميّز بسمات حراكيّة مجتمعيّة، أو فكريّة بارزة، وهذا لاينسحب هذا على مساحة الكرة التي نحن عليها، ولكنّه قد يكون مفصلاً نوعيّاً، في مكان ما، كما هو الحال في الحراك الدّائر فوق الأرض العربيّة،

والذي تُعتبَر سوريّة بؤرة فاعليّته الآن، ويتجلّى ذلك في الطروحات الوطنيّة القوميّة المُقاومة للمشروع الصهيوني،وهو محور هذا الصّراع الحقيقي، وماعداه مجرّد غبار في المعركة، أو إثارة زوابع يُنفخ فيها لتصبّ سلبا في مركزيّة ذلك الصّراع، وأيّة رؤية أخرى، إمّا أن تكون قاصرة، أو سائرة في ركاب المؤامرة، وسوريّة الآن لايُنظَر إليها بعيداً عن التّشكّل الجديد لقوى العالم الصّاعدة، الفاعلة، والتي قد تتسلّم دفّة التأثير في العالم ككلّ، بعد تراجع الدّور الأمريكي الأوروبي، وحتى لو بقي هذا الدّور ندّاً لزمن أطول، فإنّه لن يكون الوحيد،‏

قد يرى أحد ما أنْ لاعلاقة بين ماافتتحنا به المقال، و(التّكفير)، وهذا قول متعجّل، لأنّنا بدأنا من النّقطة الأشدّ سخونة، لنصل إلى توسّل الطرق، والأساليب المعتمَدة، فلم يعد خافياً على أحد أنّ قوى تكفيريّة وهّابيّة تلعب دوراً ملحوظاً على السّاحة، لصالح المركزيّة الغربيّة، وهو دور قابل لفاعليّة أخطر إنْ لم نتصدَّ له بكفاءات عالية، وبأساليب بالغة الدّقّة، عميقة الأبعاد، تقطع الطريق على استعمال هذه الأوراق في المستقبل، فقد عانت سوريّة، بتوجّهها العروبي، التّقدّمي، من قوى الإسلام السياسي الدّينيّة الوالغة في رجعيّتها في ثلاثة مقاطع من حياتها، في عام 1964م في بداية ثورة الثامن من آذار، ومن ثمّ في أواخر سبعينات القرن الماضي، وهانحن الآن مرّة أخرى في مواجهة، بل حرب، لم تعرف لها سورية مثيلاً من قبل،‏

- 2 -‏

يغلب على « التّكفير» أنّه ذو صبغة (مذهبيّة)، وليس ذا هويّة (دينيّة)، وخاصّة حين ننظر للإسلام من باب فهم الرّحابات الموجودة فيه، انطلاقاً من مساحات واسعة من آيات القرآن الكريم، وعبر السنّة والأحاديث المحمديّة، فقد اعتبر الإسلام كلاّ من اليهود والنّصارى، أهل كتاب، استناداً إلى القول بإله واحد لاشريك له، وكان هذا أحد مفاتيح الإسلام الأولى التي قاتل محمّد  من وقف ضدّها، وقبَِِلَ حتى دخول المنافقين في الإسلام، من أجل بناء مجتمع جديد، انطلاقاً من حقيقة إنسانيّة كبرى، وهي أنّ جوهرة الإيمان في القلب لايعلمها إلاّ اللّه وحده، وهذا ماأكدّه الرسول صلوات اللّه عليه وآله وصحبه، حين وقعتْ تلك الحادثة، المختلَف في نسبة روايتها، هل وقعت لهذا الصحابيّ أم لذاك، ولكن لم يُختلف في صحّتها، وهي قول الرسول  لذلك الصحابيّ حين دافع عن نفسه وقال إنّه قالها خوفاُ، فكانت تلك الإجابة النبويّة، الرّحمانيّة: «أَوَشَقَقْتَ عن قلبه»، أي أنّ درجة الإيمان الحقّ لايعلمها إلاّ اللّه، وهذا يعني أنّ اللّه وحده هو صاحب الفصل في مثل هذا الأمر، و ما من حقّ أحد تكفير الآخر، وممّا يدعو للتمعّن، في هذا السّياق، مضمون ماقاله الخليفة الثاني ڤ حين قال مامعناه لو أنّني وضعتُ رِجلاً في الجنّة وأخرى خارجها لَما أمنتُ مَكْرَ اللّه، وهو بذلك يعبّرعن أنّه لايضمن الجنّة إلاّ ربّ الجنّة، لاكما يزعم هؤلاء الهراطقة المتشدّدون، التّكفيريّون، فمَن ذاالذي يأخذ على عُهدته أن يحكم بكفر هذا، وضلالة ذاك، إلاّ المتنطّعون، المتمذهبون، المتعصّبون، القائلون بما يُخرج الدين الإسلاميّ عن رحمانيّته، وإنسانيّته، المُعرِضون عن الحديث المتّفق عليه: «أوغلوا في هذا الدّين بِرفق»،‏

إذن التّكفير ليست له أصول دينيّة، ولا حتّى فلسفيّة، لأنّ الفلسفات لاتزعم أنّها على صواب، بل هي مجرّد نظريّات ورؤى، وحين تزعم أنّها وحدها النظريّة الحقّة، وما عداها ضلال،.. آنئذ تتحوّل إلى (دين)، كما حدث للماركسيّة ولبعض الماركسيّين العرب،‏

- 3 -‏

أولى بوادر التّكفير في تاريخنا العربي الإسلامي انطلقتْ من الخوارج الأوائل، ويوصفون بأنّهم كانوا شديدي الورع، يُكثرون من الصلاة، والصّوم، بينما نرى بين (خوارج العصر)، أعني راكبي الموج الأمريكي الإخونجي، مَن لايتورّع عن منكَر، ولا يستحي من رذيلة وهو من العاملين في تلك الصّفوف،!! وإذا كان بين خوارج الأمس من تشملهم وصيّة عليّ (ع) لا بنه الحسن بعد ضربة ابن ملجم: «ولا تقاتلوا الخوارج بعدي، لأنّه ليس مَن طلبَ الحقّ فأخطأه كمَن طلبَ الباطلَ فأصابه»،.. هذه التي صحّت في الماضي لاتصحّ اليوم في هؤلاء الذين يطلبون الباطل بمساهمات أمروصهيونيّة،‏

لابدّ من ملاحظة أنّ بروز بعض الفرق الإسلاميّة، وانشطاراتها هو ناتج حراك سياسيّ، أمّا المذاهب الإسلاميّة فقد نشأت، بداية، كاجتهادات فقهيّة، وثمّة من الدّارسين مَن يرى أثر الفاعليّة السياسيّة فيها، بيد أنّها ظلّت قضايا ومسائل فقهيّة، لم تنطلق من التّكفير، وكيف ينطلق منه من يقول:» تتعدّد الطُّرق إلى اللَه، بِتعدّد أنفاس الخلائق»، كما هو مرويّ عن جعفر بن محمّد(ع)، وستبقى مقولة الشافعي (ر) نبراساً للأجيال، ولذوي العقول المضاءة بنور الحكمة:» رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأيك خطأ يحتمل الصّواب»، الأمر الذي لايُقفل الأبواب، ولايتخلّى عن مكارم الأخلاق وما ينفع النّاس،‏

لم تعرف المذاهب الإسلاميّة في البدايات حالات تكفير، بل تعايشتْ، وكانت ميداناً خصباً لتلاقح العقول، وهاهو أبو حنيفة يتتلمذ سنتين على يدي الإمام جعفر الصّادق، وكان يردّد في مجالسه « لولا السّنتان لهلك النّعمان»،‏

إنّ حوادث الاقتتال والتّكفير بين المذاهب الإسلاميّة جاءت تالية حين ضعُفت الدّولة، وحين أتيح للأهواء السياسيّة، والتّناحر على كرسيّ الحكم أن يكون الهمّ الأكبر، وحتى حين أصابت الشّرذمة الإمبراطوريّة العربيّة، ظلّت بعض الحواضر العربيّة تحمل شيئاً من أنوار تلك الجذوة، فلم تكن القاهرة الفاطميّة ذات لون واحد، هو لون الحاكم، بل لم يكن قاضي القضاة فيها على مذهبهم، ولم تكن حلب في عهد سيف الدّولة لفصيل واحد من تلك الفصائل، بل كانت لكلّ أبنائها، ولم ينتشر ذلك الوباء ( المذهبي/ التكفيري) إلاّ حين دخل غير العرب بلاد العرب، وحكموا، ومن أجل تدعيم سلطتهم، فاعتلوا موجة التّكفير، وعرفت الكتب الفقهيّة فتاوى بتكفير هذه الطّائفة أو تلك، وتأسيساً عليها فقد كان أشدّ العصور ظلماً وظلاماً على هذه الأمّة هو الزمن العثمانيّ، حين احتلّ العثمانيّون هذه البلاد، ودامت سيطرتهم عليها أكثر من أربعمئة سنة أدخلتْنا في أنفاق اجتماعيّة، واقتصاديّة، وثقافيّة، بالغة التّردّي، ماتزال بعض آثارها عالقة حتى الان، عبر الجسور التي سمحت لخيولهم بالمرور، فإذا نحن، في بعض المقاطع، لم نُغادر تلك البقاع، رغم المئات الفاصلة من السنين بيننا!!‏

إنّ جميع المذاهب الإسلاميّة تستند إلى أنّ مَن قال: «أشهد أنْ لاإله إلاّ اللّه، محمّد رسول اللّه»، فقد عصمَ دمَه، وماله، حتى حين يظنّ سامعه أنّه يقولها كاذباً، أو خائفاً، لأنّ مسألة مافي القلب لايعلمها إلاّ اللّه، وهذا يُعيدنا إلى ذلك الموقف الإنسانيّ العميق: «أَوَشَقَقتَ عن قلبه»؟!!، وينفرد الوهّابيّون بتكفير كلّ مَن ليس وهّابيّاً،!!‏

أرجو ألاّ يُفهم من هذا الكلام أيّ معنى يحيل على استبعاد الدّين، أو نفيه، بل المقصود استبعاد التّمذهب المتعصّب، والتّكفير الجانح، فالدّين حين نُحسن فهمه، وتطبيقه، وعلى أنّه علاقة ربّانيّة بين العبد وبين اللّه، تنطلق من مقولة: «الخلق كلّهم عيال اللّه...» مثل هذا التّوجّه يحوّل الدّين إلى طاقة وجدانيّة، عميقة الغور، تؤثّر في سلوك مَن يحملها، في الفهم، وفي التّعامل مع الآخر الذي هو أخوه في عائلة اللّه،‏

إنّ تعرية التّكفيريّين واجب وطني، وقومي، وديني، وأخلاقي، ولا خيار للمناطق التي تشكو منهم إلاّ باستئصال بؤر ذلك الدّاء، لأنّ التّكفير ليس من الإسلام في شيء، كما أنّه ليس من الأخلاق في شيء، وتطهير البؤر التي دنّسوها يخدم المجتمع، لأنّ هؤلاء حين يسكتون فإنّهم يُعدّون العدّة لاستباحة رقاب العباد.‏

aaalnaem@gmail.com

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية