|
المجلات الأدبية وأوهام العولمة ملحق ثقافي
هل نحن مرة أخرى أمام تقليعة جديدة من نبوءات النهاية والموت التي اجتاحت العالم وما تزال في عصر يعلن كل يوم نهاية تجربته الحداثية بينما يعيد في نفس الوقت إعادة إنتاجها؟! بالطبع، تبدو الأسئلة مكرورة ولا تختلف عن كل ما طرح من أسئلة سابقة تخص تجارب التحولات الثقافية التي نعايشها خلال العقود الأخيرة. أما فيما يتعلق بظاهرة المجلة الأدبية، فقد شرع العديد من المهتمين بتاريخها فعلاً بنعيها كتجربة ولدت في أحضان الحداثة الأولى مطلع القرن الماضي ثم عاشت ما يكفي وأنجزت ما يكفي فوصلت إلى منعطف النهاية حيث لم يعد هناك إمكانية أو حاجة لوجودوها، على الأقل في شكلها التخصصي المعروف. يجب في البداية وقبل أن نتطوع لتحدي نبوءة نهاية المجلة الأدبية أن نتعامل مع الموضوع بشيء من الحذر، ذلك أن كل ما سبق من نبوءات بنهايات مشابهة لظواهر إبداعية وثقافية كان في حقيقته مجرد تعبير عن القلق الناتج عن عمليات التحول في كل من الحساسيات الإبداعية وأنماط التعبير والانتاج الثقافي. لم يحدث أبداً نهايات قاطعة وواضحة. لم تنته الحداثة ولم ينته الشعر ولا الرواية ولم يمت التاريخ ولا المؤلف.. كل ماحدث هو تحولات قد تكون كبيرة أو عميقة في حياتنا الثقافية بحيث وجدنا أنفسنا في عصر جديد نحتاج فيه إلى أن نكون مختلفين في الإبداع والثقافة. وهكذا، قد يكون صحيحاً أن المجلة الأدبية التي ولدت كظاهرة وكشكل في مطلع القرن الماضي لم تعد قادرة على الاستمرار في وجود فعال بشكلها وبنيتها التقليدية، لكن هذا لا يعني بشكل مؤكد أن الحياة الثقافية المعاصرة لم تعد بحاجة إلى نوع جديد من المجلات الأدبية قادر على تلبية حاجات العصر. والتحول لا يعني النهاية، بل ربما كان مؤشراً على القدرة على الاستمرار. بعد عقود طويلة من نشوء المجلة الأدبية الحديثة يبدو أن التعريف الأكثر شيوعاً لوظيفة هذه الظاهرة هو أن مهمة المجلة الأدبية هي تقديم كتابات الأدباء الجدد والتعريف بمواهب الكتاب غير المكرسين. يتجلى في هذا التعريف نزعة توفيقية تتجاهل تعقيدات العمل في الأوساط الثقافية ولا تأخذ نرجسية محرري تلك المجلات على محمل الجد. إن أي من الكتاب الجدد اليوم سينظر إلى هذا التعريف بشيء من الريبة نتيجة التجربة الشخصية بالطبع. وبالإضافة إلى ذلك، ليس ذلك التعريف هو الوحيد في تاريخ المجلات الأدبية، فهناك تعريفات أخرى تزيد المسألة تعقيداً، ولعل من أهم تلك التعريفات هو ما حدده واحد من أشهر محرري المجلات الأدبية في تاريخ هذه الظاهرة، الشاعر البريطاني ت س إليوت الذي كان صوتاً مهيمناً بشكل استثنائي في الحياة الأدبية الأوربية خلال النصف الثاني من القرن العشرين وهي الفترة ذاتها التي تكرست خلالها المجلة الأدبية كشكل وكمؤسسة أدبية ذات تأثير فعال. يقول ت س إليوت: “سأجعل الهدف الأساسي للمجلة الأدبية هو الحفاظ على المعايير النقدية الرفيعة والارتقاء بالمستوى الفكري”.. وليس في التعريفين السابقين تناقضاً من حيث المبدأ. فيمكن لأي محرر لمجلة أدبية ما أن يوفق بين الهدفين، أي العمل على تقديم أصوات أدبية جديدة مع الحفاظ في نفس الوقت على تلك المعايير النقدية والفكرية التي حددها إليوت. لكن هذه النزعة التوفيقية لتحقيق الهدفين السابقين معاً أدى إلى ظهور نوعين مختلفين من المجلات الأدبية. النوع الأول وهو النمط الكلاسيكي من المجلة الأدبية الذي يقدم كتابات إبداعية لأدباء جدد أو غير مكرسين بعد تتميز بشكل متعمد وواعٍ بتحديها للقيم والمعايير الجمالية والنقدية السائدة وتعتمد في غالبيتها أسلوبيات غير شائعة أو مناقضة للحساسيات التقليدية. والنوع الثاني هو تلك المجلات التي تسعى إلى تكريس المعايير النقدية والفكرية من خلال إفراد مساحات كبيرة للمراجعات والبحوث النقدية والنظرية. إن تاريخ المجلة الأدبية كشكل يتحدد من خلال الجدل المستمر بين هذين النوعين. أما فيما يتعلق بالوظيفة المعاصرة للمجلة الأدبية، فهناك أصوات تدعو لإعادة النظر في تاريخ هذه الظاهرة والبحث عن وظائف معاصرة مختلفة لها. من وجهة نظر الناقد وعالم الجمال الذي يبحث عن وثائق تمكنه من تحديد الحساسية والذائقة الأدبية التي كانت رائجة في عصر ما، فإن المجلة الأدبية تعتبر نظرياً مصدراً هاماً يمكن من خلاله رصد مؤشرات تساعد في كتابة تاريخ الحساسية الابداعية. لكن هذا التوجه لم يعد من البديهيات في عصرنا لأن وجود المجلة الأدبية كوثيقة لا يكفي لاعتمادها كمصدر ذي مصداقية، والسبب في ذلك وفق من يذهب في هذا الاتجاه من التشكيك في جدوى المجلات الأدبية أن تلك المجلات لم تكن في معظمها تحقق رواجاً جماهيرياً من حيث كمية التوزيع وهذا ما يجعل منها أداة فعالة في توثيق وكتابة التاريخ لعصر ما. وفي عصر المعلوماتية والعولمة يرى المؤرخون الجدد لظاهرة المجلة الأدبية أن وظيفتها أصبحت تتجاوز اليوم العمل في بيئة ثقافية محددة. على المجلة الأدبية المعاصرة أن تكون جزءاً من فضاء من الدوريات والمجلات المتخصصة في جميع أنحاء العالم بحيث تغدو المجلات بيئة كونية لأدباء وكتاب وقراء العالم. وفي هذه البيئة يمكن للأدب أن يتطور بمعزل عن الحدود الإقليمية واللغوية والنقدية التقليدية. كيف لكل ذلك أن يحدث؟!! لم يجب دعاة هذا الاتجاه على ذلك بعد! يبدو أن هؤلاء قد خطفتهم أوهام العولمة بعيداً عن الحقيقة. كيف يمكن للأدب أن يكون كونياً قبل أن يحقق فرادته وخصوصيته المحلية؟!! وكيف لمجلة أدبية أن تكون جزءاً من فضاء كوني قبل أن تكون محلية اللغة والهوية؟!! عن الملحق الأدبي لصحيفة التايمز اللندنية.
|