تزغرد في مكانها وهي تدور حول نفسها.. تنطلق بعدها السيارة مسرعة، وكأنها تفر من الوقوع في بئر سحيق، تفر من أن تبتلعها النعومة، وتغيبها في سبات عميق . كان يقود سيارته في تلك الصحراء وكأنه على طريق مزفَّت خال من المطبات والمخاطر، يمضي باتجاه خيامه وكأنه يحمل بوصلة في يده، أو أن سيارته قد اعتادت تلك الفيافي، فراحت تجتازها وسط ذلك الليل حالكِ الظلمة بلا أي توجيه..
لهجته البدوية الخالصة، لا تتناسب وملامح وجهه الذي لم ترسم عليه الشمس ولا الرمال معالم ابن الصحراء.. كان يتكلم عن أهل الحضر وكأنه بعيد جداً عنهم، كلماته تتسلل إلى مخي محاولة أن تُفْهِمني بأنه بدوي قُحّ وابن تلك البيداء.. اللهجة البدوية تؤكد قوله، لكن وجهه..؟! قال لي وهو يصحِّح وضع عقاله فوق رأسه، والسيارة ما زالت منطلقة مخلفة وراءها سحائب من رمال بنية:
ـ هناك مفاجأة لك !
ـ مفاجأة !.. ما هي ؟
ـ تعرَّفتَ عليَّ منذ أيام على أنني من هذه الديرة.. أليس كذلك ؟
ـ أجل.. وقلتَ لي إن أباك يعمل موظفاً في الدولة بوظيفة مرموقة..
ـ الحقيقة أنا لست من هنا.. أنا من دمشق !..
ـ من دمشق ؟!..
ـ إيه يا خوي..
ـ دمشقي ؟!.. ولهجتك البدوية الخالصة.. ما هذه ؟!.. إن كنت دمشقياً فأسمعني إجادتك للهجة أهل دمشق..
لم يستطع أن ينطق إلا بكلمات مشوهة، تقول بأنه يقلد اللهجة وليس من أبنائها.. أخذني مَدٌّ وجَزْرٌ بين تصديق وتكذيب ، ورحت أقلب الأفكار ، وأتفرس في وجهه.. وأنصت إلى كلماته:
ـ لقد قلتُ إن أبي من هنا ويعمل هنا ، والواقع أن لي أَبَيْنِ وأُمَّيْن..
قطعت حديثه مستغرباً:
ـ ماذا تقول ؟!.. لحظة عن إذنك كي أشعل سيجارة.. كيف ذلك ؟ أتمم الآن فكلي آذان صاغية..
تبسم ابتسامة حلوة ثم تابع:
ـ والدي ووالدتي الحقيقيان هما في سورية، وما زالا يعيشان هناك، أما من قلت لك عنه إنه أبي فهو من هنا.. من الرياض، تعرَّف علينا من خلال زياراته لنا في سورية.. وقد أتيت معه لأعيش هنا، وزوجته بمنْزِلة الأم الثانية لي.. لا تستغرب ذلك، سأروي لك قصتي من أولها:
ـ منذ صغري وأنا مولع بالصحراء، مولع بهدوئها، بهوائها، بشمسها، برمالها، وكثبانها، مولع بالحياة البدوية ونقائها وصفائها.. قد تستغرب وتسألني: من أين لك المعرفة بالصحراء وأنت ابن دمشق كما تقول ؟.. لا.. لا تستغرب يا صاحبي فلقد حدث ذلك في البداية عندما ذهبت مع بعض الأصدقاء للصيد والقنص في بادية الشام، ولما رأيت تلك الصحراء الواسعة الشاسعة، شعرت وكأنني جزء منها، شعرت وكأنها الأم التي لا أستغني عنها ولا تستغني عني، وتم العشق.. وسرى حبها في دمي، وبت لا أطيق عنها بعداً، وكنتُ أراها في يقظتي ومنامي.. كنت لا أبعد عنها يوماً إلا لأعود وأنكب بين أحضانها نادماً على ذلك اليوم الذي ضاع مني بين الجدران، بين الصخب، والشوارع، والدخان.. كنت عندما أعود إلى منْزِلي في دمشق وأكلم والدي بلهجة بدوية ينْزِعج، ويلوي شفتيه ويقول:
ـ البدو أخذوا مني الولد، وسرقوا منه حتى لهجته، ضاع الولد !..
لقد كان في البداية يحاول أن يثني من عزمي كي لا أذهب، كان يخاف علي من الصحراء، لكنه بعد أن تيقن من أنني عاشق ولا أستطيع البعد عن معشوقتي تركني لقدري، تركني لتلك البيداء، تصقلني بالتجارب.. لقد علمتني الخير، علمتني العطاء دون انتظار الجزاء أو الشكر، علمتني الصبر، والاعتماد على النفس.. علمتني العادات الكريمة، التي للأسف قد تخلى عنها معظم الحضر..
النور المنبعث من القناديل الأمامية للسيارة، يغتال العتمة، يخترقها، فتنحسر هاربة بعيداً.. يعدو أمام السيارة حيوان صغير، أشبه ما يكون بالفأر، يصيح صاحبي مبتهجاً:
ـ انظر.. إنه جربوع !..
وينطلق بالسيارة خلفه مسرعاً، وهو يبدل من الضوء المنخفض إلى العالي وبالعكس، إلى أن توقف الجربوع وهو ينظر باتجاه الضوء.. نزل من السيارة وهرول مسرعاً ليأتي الجربوعَ من خلفه، وما كاد يقترب منه حتى غير الجربوع رأيه، وانطلق يعدو ثانية، صاح عليَّ أن أقود السيارة وأتبعه، انطلقتُ مسرعاً خلف الجربوع.. وصاحبنا يعدو وهو ممسك بأطراف ثوبه، إلى أن ملَّ الجربوع من العدو وتوقف ثانية يتأمل نور السيارة.. أتاه صاحبنا من خلفه، وهو يجس الأرض بقدميه جَسَّ الطبيب المشفق، ثم وثب بخفة الليث وأمسك به، وعاد إلى السيارة عودَ المنتصر، ومن بين لهاثه قال:
ـ انظر إليه ما أجمله !..
ـ إنه فأر..
ـ لا.. ليس فأراً إنه جربوع، انظر إلى ذيله الطويل، وإلى الشعر في نهايته، وإلى أذنيه ورأسه، إنه يختلف كثيرا» عن الفأر..
كان يكلمني وهو ممسك بالجربوع من عنقه، والجربوع يصارع، ويحاول الخلاص.. ولما هدأ لهاثه عاد يتابع قصته:
من خلال رحلات الصيد الطويلة تلك، تعرفت على البادية وعلى الكثير من سكانها، فوجدت عندهم الطيبة والبساطة، وجدت الحياة التي لا زيف فيها، ولا تكلف لقد كنت أدرك تمام الإدراك ما أريد، فبادرت إلى تنفيذ ما أريد، وهكذا صرت أقضي أغلب أيامي بين البدوان، الذين أحببتهم وأحبوني، لا أرتاح إلا بينهم ولا أشعر بالسعادة إلا إذا شاطرتهم حياتهم ومشاكلهم، فأصبحت البادية جزءاً من حياتي، بل حياتي كلها، وعندما زارني أبي الذي كلمتك سابقاً عنه، زارنا في دمشق ولاحظ عشقي هذا، وتبرم والدي من حالي، طرح عليه أن آتي معه إلى الرياض.. وقد تم ما كان بعد أن أقنعته بشتى الوسائل.. وعندما وصلت الرياض وجدت الشوارع والمساكن والجدران وصخب السيارات والمعامل ودخانها، ضاق صدري، اختنقت الصحراء في عروقي، أحسست وكأنني سجين في قفص، أو فرس جموح قد كبِّلتْ وشُدَّتْ إلى مربط متين.. لم ترق لي حياة الجدران والفِلَل والمكيفات ذات الهواء الاصطناعي.. انطلقتُ حيث وجدت نفسي، إلى حيث الصفاء والنقاء.. انطلقتُ إلى الصحراء، أتجول بها، وراق لي هذا المكان المسمى بالجنادرية، فنصبت خيامي قريباً من بعض البدو الذين اتخذوا من هذا المكان مضارب لهم، وإنني عندما أنهي عملي آتي إلى هنا وأقضي أغلب لياليَّ في خيامي تلك..
السيارة ما زالت تئز كنحلة، وعجلاتها تسبح في النعومة.. والجربوع في يده ما زال يتلوى، يصارع من أجل الخلاص.. من أجل البقاء.. خيمة على البعد يصطدم بها نور السيارة تظهر لأعيننا.. وصاحبنا يتغنى بشعر نبطي، لم أفهم منه أية كلمة.. السيارة تُرْكَن إلى جانب الخيمة، يهدأ محركها تحاول أن تستريح من عناء صراعها مع الرمال، يترجل من السيارة، ينظر إلى خيامه يجدها ناقصة خيمة، يصيح بأعلى صوته:
ـ الغزو.. جانا الغزو.. يا شباب، يا نَشامى شدوا على الخيل !.. نهبوا الحلال.. الغزو !.. يا أهل الديرة.. وضحك ملء شدقيه..
سألته مستغرباً:
ـ أصحيح سُرِقَتْ الخيمة ؟
ـ لاتقل سُرِقَتْ، وإنما قل أخذوها بالغزو..
ـ صحيح ؟!..
ـ إني أمزح، يستعيرها بعض الأصدقاء ويعيدونها ثانية.. ولكن قل لي بذمتك أليست الحياة هنا أجمل من كل قصور العالم، أليس مجرد التنفس لهذا الهواء النقي يعتبر متعة بحد ذاته، وهذا الصمت الذي يلف كل شيء حولك فيدعك تتكلم أنت أليست هذه هي الحياة ؟.. أن تجد نفسك وتعرف ما تريد وتنفذ ما تريد، دون إيذاء الآخرين أو الإضرار بهم..
نظرتُ إليه دون أن أنبس ببنت شفة، وأنا أرقبة وهو يشعل النار، وينظر بعيداً في العتمة وهو يصيح:
ـ يا هلا بضيوف الرحمن !.. يا هلا.. القهوة يا ولد !..
ورجع إلى غنائه الذي لم أفهم منه كلمة واحدة..