وعلى أحدث مؤلفاته الذي عنونه )التاريخ العام للحركة الفنية في سورية(. هذا بالإضافة إلى مكتبة ضخمة، تشعر المرء بمتعة خاصة، وبجمال المكان.
لم يبخل الدكتور عبد العزيز علون في الحديث عن مؤلفه هذا، وعن أحد الفصول الذي تحدث فيه عن الأرمن، وأحصى فيه نشاطاتهم الفنية تحت عنوان )يتسع قوس الألوان للون الأرمني(، مذكراً بعشرات الأسماء الفنية الكبيرة.
سألته عن هذا الاهتمام، فقال:
ـ ـ عشت في الحي الأرمني في جديدة قرابة 4 سنوات، وكان الأرمن جيراناً لي. الحركة الأرمنية في سورية في غاية الأهمية. في الفترة التي لم نكن نكتب فيها صفحات من تاريخ الفن في العشرينات والثلاثينات، كان الأرمن قد تخرجوا من باريس وروما ولندن، وأقاموا المعارض الفردية في سورية. أنا أرى أننا لا يجب أن ننسى أمرين هامين: المرأة في سورية، ومساهمة من لا يكتبون بالعربية. كانت نشاطات الأرمن مهمة، فهم لم يتغيبوا عن معارضنا الرسمية، وكان الكثيرون منهم يقيمون ورشات عمل في أوروبا ويعودون إلى حلب لإقامة هذه الورشات، وكانت لهم مراكز ثقافية في حلب في كلية الفنون )ساريان( ومركز ثقافي، يستضيف أهم مثقفي العالم حتى الآن. كما أن مؤلفات الأرمن في تاريخ الفن ودراساتهم غاية في الأهمية، ولم يترجم أي من كتبهم.
قصتي مع دمشق
د. عبد العزيز علون من مواليد خان شيخون في حلب عام 1934. أغنى ثقافتنا الفنية بما يزيد عن 25 كتاباً ومئات المقالات النقدية باللغتين العربية والإنكليزية، فقد نشر كتابين على شكل مقالات، الأول هو تاريخ النحت العربي في العصر الجاهلي، درس فيه دراسة الفنانين العرب ومعابدهم في العصر الجاهلي. والثاني نشره في صحيفتي البعث وتشرين، تحت عنوان )الأموي الكبير في دمشق وتاريخه وجمالاته( ومن هذه المقالات خرج الفيلم السينمائي الذي نال جائزة الإبداع تحت العنوان نفسه، وهو عبارة عن بحث مستفيض عن الجامع الأموي وفيه قراءات وتفنيد ونقد للدراسات الأجنبية التي وصفت الجامع الأموي.
د. علون هو مالك أكبر مجموعة من اللوحات في سورية، ويقول: لم أوفر المال في البنوك، بل سخرته للوحات والتماثيل. تضم مجموعته آلاف من اللوحات الأصلية، والتي تتمتع بأهمية كبيرة، وقد جمعها من بلدان كثيرة. وأضاف إليها المجموعة التاريخية التي اشتراها من صالة الفن الحديث العالمي في دمشق، بالإضافة إلى ما جمعه من فنانين سوريين وعرب. يقول:
ـ ـ في عام 1956، بعد عودتي من الهند، حصلت على الليسانس في اللغة الإنكليزية، ثم على دبلوم التربية، على اعتبار أنني سأعمل في التدريس، ثم ذهبت إلى إنكلترا، وغبت فيها سنتين، وبعد ذلك درست الإنكليزية في البوكمال. وبعد عودتي إلى دمشق، عملت في إدارة معهد الحرية، ثم سافرت إلى إنكلترا، وبعدها إلى إيطاليا عام 1973- 1974، حيث عمدت إلى دراسات خاصة هيأت فيها أطروحة الدكتوراه وكانت بعنوان )الذرى والقيعان في تاريخ الفن العام(. بدأت التدريس في كلية الفنون الجميلة عام 1962 وبقيت فيها 24 عاماً بفترات متقطعة. عام 1998 أخذت على عاتقي محاضرات في الكلية الأمريكية في بيروت، وفي جامعة دمشق.
ـ بعد عودتك من إنكلترا، هل تغيرت اهتماماتك؟
ـ ـ لا.. لكن انتقلت في الوظيفة، وأصبحت في مجلس الوزراء، استلمت عملية العلاقات الدولية مع المنظمات المعنية بالشؤون الثقافية، ومقرراً للجنة الثقافية في مجلس الوزراء للشؤون الثقافية، ولكن اهتمامي بالنشاط المحلي أصبح أقل.
ـ قربك من الأرمن ولغتهم ومؤلفاتهم، بالإضافة إلى اللغة الإنكليزية التي تمتلكها، ألم يكن حافزاً لك لتترجم إلى العربية ما يخص الفن وتفتقده مكتباتنا؟
ـ ـ أنا أفهم الأرمني لكني لا أكتبه، ولكن معظم كتاباتي بالإنكليزية، ترجمت من اللاتيني إلى الإنكليزي أشعار السوريين في فترة العصر الروماني ديوان شعر كامل. عندما أتعب أتسلى في ترجمة الشعر أو تقارير الحفريات الأثرية، وقد ترجمت شيئاً آخر له أهميته، وهو كتاب كامل لمذكرات الحفريات يوم اكتشاف طروادة، ولم أطبعه. وترجمت كتاباً ثانياً لأندريه بارو، عن اكتشاف ماري، وغيرها من الترجمات عن الاكتشافات. لم أعمل في الترجمة، لأنه بتقديري أن ما أكتبه هو أهم من الترجمة، ولكني أترجم في أوقات استراحتي. لقد ترجمت ديوان شعر للشاعر أبولونير الفرنسي، مؤسس فكرة الحروفية. جميع قصائد هذا الديوان تحكي عن الفن، مثلاً بعض القصائد مهداة إلى بيكاسو، وغيره من الفنانين الكبار. أبولونير هو الذي وضع مصطلح التكعيبية، والدادائية، والسريالية، والحروفية، وقد كتب بيان الحركة الفنية.
ـ أنت شاعر ولا عجب أن تهتم لترجمة الشعر، ولكن ماذا عن اهتمامك فيما يكتبه المنقبون في البعثات الأثرية تحديداً؟
ـ ـ الحقيقة أن المنقبين يمكثون فترة طويلة في المناطق الطبيعية التي تستهويني، وقد اشتركت معهم في عدة مواسم، منها مع حفار فرنسي في تل الرماد لموسمين، ثم طردني عندما اكتشف أني أرفض المال لقاء تعبي. كنت أستاذاً في الجامعة، وخلسة دخلت بين عمال التنقيب، لم أعرف عن نفسي لأني لم أكن أريد أن يرفعوا لي مكانتي في العمل، بعد ذلك اكتشف وجودي أندريه بارو. ومن ثم ومع حضور الفنان الفرنسي الكبير راودن دوفيه إلى سورية، أبعدت عن قسم النخل وقربني منه وأصبحت مدققاً على العمال، وكان علي تصنيف المكتشفات.. هذا كان في السبعينيات. ولكن لم تكن هذه الفرصة تتوفر لي دائماً.
ـ الكثير من دراساتك وأبحاثك حبيسة الأدراج، فمتى تفرج عنها؟
ـ ـ أنا على استعداد لتسليم أكثر من 15 عنواناً بالعربية والإنكليزية عن المساهمات السورية في الحضارة والفنون، في حال وجدت دار النشر المؤهلة للإصدارات الفنية.
ـ عندما تنتهي من كتابك الجديد، ماذا ستفعل؟
ـ ـ بعد طباعة هذا الكتاب، سأبدأ بإعداد )تاريخ الفن، الحروفية في أوروبا(.
ـ ألا تفكر بنشر بعض من أشعارك؟
ـ ـ الشاعر الكبير صلاح ستيتية ترجم لي إلى اللغة الفرنسية ونشرت القصيدة بجوار النص العربي لها، وشريف خزندار ترجم لي أيضاً بعضاً من قصائدي التي كتبتها باللغة الإنكليزية إلى اللغة الفرنسية، ومحمد الماغوط نشر لي ثلاث قصائد في مجلة شعر باللغة العربية، وهناك عشرات القصائد لم تنشر. نذير نبعة أخذ مني 22 قصيدة كتبها بخط يده، وعمل على رسم لوحات تحيط بالقصائد، حيث أدخل الكتابة بالتصوير، واتفقت معه على إخراج خاص، فوضعنا مقدمة ديوان رسمها نذير وكتبنا تعليقاً على هذا الديوان، ويوماً ما سينشر على طريقة أبولونير. وفي أثناء تواجدي في إنكلترا كتبت مجموعة من القصائد، وهذه في الحقيقة كانت نوعاً من التسلية ليس إلا.
تأريخ الحركة الفنية في سورية
عندما يتحدث الدكتور علون عن ذكرياته الفنية والثقافية في حلب وينقلنا معه إلى دمشق، إنما يؤرخ بهذا لبداية ظهور الحركة الفنية السورية ويدخل في حنايا الذاكرة نابشاً أدق التفاصيل والحكايات الجميلة التي جمعته مع معظم الفنانين الكبار الذين حفروا أسماءهم على صفحات تاريخ الحركة الفنية، فيذكر لنا غالب سالم، الذي تخرج من روما عام 1936، ووهبي الحريري المعمار والمصور، وزارا كابلان وجيباجيان، ومنيب النقشبندي، وفتحي محمد النحات، ولؤي كيالي وصبحي المصري، وألفريد بخاش، ولوران خوري، وفاتح المدرس، وعدنان ميسر وسليم قطايا والناقد أورخان ميسر وناظم الجعفري وميشيل كرشة، وقد تضيق المساحة لسرد ذاكرة وطن حملنا إليها د. علون، عبر انسجامه بقصص شخصيات رواد الفن والثقافة في حلب ودمشق. ويشير د. علون إلى العمل الكبير والهام الذي قام به عندما ألف كتاب )حكايا ملاح( في حوالي 800 صفحة، وهو من جزأين، جمع فيه الأصدقاء وتفرد كل اسم بعدد من الصفحات خط فيها القصة الحقيقية الموثقة بتفاصيلها لكل منهم، وهذا الكتاب في طريقه للنشر كما يطمح د. علون.
خارج هذا السياق، وعودة إلى فناني دمشق وحلب في فترة ما قبل ظهور التلفزيون، تلك الفترة الفنية من حياتهم الوافرة الحماس والمقبلة على النشاطات الفنية التي أدخلوها إلى دمشق، كالندوات الفنية، عرج الدكتور علون إلى معاناة هؤلاء الفنانين وإصرارهم عل الدخول إلى الصحافة، ثم استقرارهم في دمشق، الذي كان هو السبب في نشوء وزارة الثقافة سنة 1958، ومديرية الفنون الجميلة ومديريات أخرى. هذا في دمشق، وبالنسبة إلى حلب، فإنها كانت في تراجع وتم إغلاق بعض المراكز الثقافية فيها، وفقدت المكتبة الوطنية ألقها. يقول الدكتور عبد العزيز: إن حلب في فترة الخمسينيات كانت عاصمة اقتصادية لسورية، وفي فترة الستينات صارت ملحقة بدمشق، وصارت الحركة الاقتصادية والثقافية تنطلق من دمشق، إذ تزايد عدد السكان. لم تكن دمشق مؤهلة من الأساس لتكون عاصمة اقتصادية، ولكن لا بد من وجود مكاتب رئيسية، وقد ناقشت هذا الموضوع وكتبته بدقة لأنه مرحلة مهمة من حياتنا، وكان تحت عنوان )العتبة الحلبية للحركة الفنية في سورية( لأن الحركة الفنية في الحقيقة أخذت دفعاً قوياً من حلب بسبب وجود الأرضية من جهة، والنشاط الاقتصادي الجيد من جهة أخرى.