2(, ولد مفهوم «التّناص intertexuality» الذي أحدث انعطافاً هامّا في تحليل النّص الأدبي, وبات مجالاً خصباً للنظريات النقدية على اختلاف مشاربها واتجاهاتها من أسلوبية وبنيوية وتفكيكية ولسانية.
وقد تعدّدت تعريفات «التّناص» وحدوده, وأشكاله, ووظائفه, بتعدّد هذه النظريات ومنطلقاتها وأعلامها! ففي الوقت الذي يلمّح فيه «بارت» إلى ظاهرة التّناص بقوله : إن كلّ نصّ نسيج جديد لاقتباسات ماضية, فإنّ «شنايدر» يذهب إلى أبعد من ذلك عندما يجعل من هذه الظاهرة في الكتابة آليتها الأساسية وسبب وجودها. فيما يميّز «جينيت» بين «التّناص» و«الاشتقاق النّصي» فيرى أن «التّناص» حضور متزامن لنصّين: )أ حاضر مع ب في النّص ب(, أما «الاشتقاق النّصي» فحضور غير متزامن لنّصين: )ب يشتق من أ لكن أ غير موجود بشكل فعلي في ب( )3(. وعبر الاطلاع على تعريفات عدّة للتناص)4(, ودفعاً للالتباس النظري, يمكن القول إن ما يقصد بالتّناص في هذه الدراسة هو: الحضور النسبي الصريح أو المضمر لنص أو مجموعة نصوص سابقة في نص ما لاحق, عبر المحاكاة, أو التحوير, أو الاقتباس, أو التحويل, أو التشرّب, أو التلميح, أو اللصق.
ويمكن للقارئ أن يرصد ويحلّل هذا «التّناص العام» وتفاعلاته بين رواية محمّد رضوان «أعمدة الغبار»)5( بوصفها نصّاً لاحقا صدر في العام 2008, ورواية ممدوح عزّام «قصر المطر» )6( بوصفها نصّاً سابقا صدر في العام 1998, من خلال خمسة مستويات, هي: الفضاء الزماني/ المكاني, والشّخصيّات, والأحداث, والمرجعيات النّصيّة, واللغة.
الفضاء الزماني/ المكاني
يمتدّ زمن المتن الحكائي في «قصر المطر» الذي نستدل عليه من الوقائع والأحداث والمعارك بدءاً من نهاية الاحتلال العثماني أواخر عشرينيات القرن الماضي, مرورا بالانتداب الفرنسي على سوريا في العام 1923, وقيام ثورة سلطان باشا الأطرش في العام 1925, وصولا إلى قمعها بعد معارك طاحنة مع الثوار في العام 1927.
ويتم تخطيب/تسريد هذا الزمن عبر تناوب الاستباقات والاسترجاعات في نسق هابط يعرض لنا نهاية زمن الحكاية تحت عنوان تمهيدي مستقل: «بعد الكلام», ثم يليه نسق زمني صاعد بدءا من الفصل الأول تتتابع الأحداث فيه تتابعا زمنيا )كرونولوجياً( بتتابع الجمل على الورق.
أمّا الفضاء المكاني فيشمل أمكنة واقعية متعيّنة مثل: السويداء, القنا, إزرع, الجولان, اللجاة, جبل الشيخ. وأمكنة متخيّلة لامتعيّنة مثل: المنارة, أمّ الجرابيع, عين الزبدة, وادي الذهب, سهل الزرازير, قصر المطر, تل القينة, خربة البندق.
وهذا التداخل المكاني بين المتعيّن واللامتعيّن يوهم بواقعية الخطاب, وينأى به عن المباشرة والتسجيلية من جهة, وينفتح على التأويل وتعدّد الاحتمالات من جهة ثانية.
ولا يخرج الفضاء الزماني/ المكاني في «أعمدة الغبار» عن هذه الترسيمة إلا في حدود ضيّقة. حيث يمتد زمن المتن الحكائي من نهاية الاحتلال العثماني أيضا, مرورا بالثورة وقمعها, ووصولا إلى مرحلة الاستقلال في العام 1946, وهي المرحلة الوحيدة التي لم تتوقف عندها «قصر المطر». كما يتم تخطيب هذا الزمن المُخترق باسترجاعات واستباقات زمنية عبر النسق الصاعد وحده الذي يعرض لنا بداية زمن الحكاية, ثم تتتابع الأحداث فيه تتابعا زمنيا )كرونولوجياً( وصولا إلى النهاية.
كما يشمل الفضاء المكاني أيضا أمكنة واقعية متعيّنة, مثل: السويداء, إزرع, قصر الأمارة, دمشق, القدس, بيروت, وأمكنة متخيّلة لامتعيّنة, مثل: أم الخرز, أم الأرانب, عين السلسال, خربة قمرا, وادي الفرس, تل الخروف, خربة الذياب.
إنّ التناص الزماني/ المكاني في هذا السياق تناص يعمّق عناصر الزمان والمكان وحدودهما ودلالتهما البيئية بشيء من التحويل والتحوير الملحوظ, سواء أكان في المرحلة وامتدادها أم في أسماء الأمكنة الواقعية والمتخيّلة. ومن هنا تأتي مشروعيته الفنيّة المتحقّقة في النسيج الجديد للنّص اللاحق: «أعمدة الغبار» تحت تأثير النّص )النموذج( السابق: «قصر المطر».
الشخصيّات
لا يتوقّف التّناص على مستوى الشخصيّات من خلال التشابه الدلالي بين أسماء بعض الشخصيّات, كما في دلالة اسم «بهاء الدين» الذي أطلقته «قصر المطر» على سلطان باشا الأطرش, فيما أطلقت عليه «أعمدة الغبار» اسم «شمس», والقرينة واضحة هنا بين الاسمين الدّالين على الرفعة والسموّ. إنّما يتعدى ذلك إلى تماثل الوظيفة الفاعلة لكل شخصيّة بحسب مهنتها وموقعها الاجتماعي في الروايتين.
فكما يتعرّف المتلقّي إلى أقطاب الصراع في «قصر المطر» المتمثّلة بآل الفضل الحجّارين الوطنيين في مواجهتهم لآل الكنج الإقطاعيين ومرابعيهم المتعاونين مع الانتداب, وإلى «بهاء الدين» في مواجهته لسلطة الانتداب ورموزها العسكرية, فسيتعرّف أيضاً في «أعمدة الغبار»إلى الأدهم وآله الفلاحين المتشبثين بأرضهم في مواجهة أمراء الإقطاع, وإلى «شمس» ورجاله في مواجهتهم للحاكم العسكري في الجبل وأعوانه. وفي دائرة ومحيط هذا الصراع المتماثل في عناصره وامتداده ودلالته تبرز في كلتا الروايتين قصص حب متوهّجة ومتماثلة أيضا كقصّة كنج الحمدان وصباح, ونايل وهيلا, وشامل وماريّا, وحسّان ومحاسن, في «قصر المطر». وقصة الأدهم الصغير وخواتم التي تشكل بؤرة مركزيّة في «أعمدة الغبار». كما تبرز شخصيات أنثوية جاذبة وفاعلة في توجيه مسار السرد مثل شخصيّة «ثنيّة» المرأة / النموذج الفاضل, وشخصيّة «سمرة» المرأة/ المومس, في النّص الأوّل, وشخصيّة «جواهر» الأم/ المثال في النّص الثاني. وشخصيات ذكورية ذات حمولة سيكولوجية كثيفة مثل شخصية «الذيب الأعرج» نموذج الآبق الثائر, والليوتنان المخنّث نموذج الشاذ جنسياً, عند ممدوح عزّام, وشخصيّة «الغول»/ نموذج الأمثلة الشعبية عند محمد رضوان.
وفيما تتشابه أسماء وأدوار ومواقع الشخصيات المتخيّلة والفاعلة في الروايتين, فإن أسماء ورتب وأدوار الشخصيّات المرجعية ولا سيّما الفرنسية تتطابق فيهما تماما, كما هو الأمر بالنسبة إلى «الجنرال غورو» و«الكومندان ترانكا» و «الكابتين كاربيه» و «الكابتين نورمان» و«الليوتنان ميشو» و«شارل» و«موريل».
وكما تحضر شخصية كلٍّ من الطبيب الأرميني بطرس صاحب الخمّارة في «قصر المطر» وشخصيّة الوسيطة/الرسولة أم يعقوب, والبيطار حنّا, والبائع المتجول أبو معروف, والمترجم أنطوان ملحمة, بوصفها تنويعاً أثنيا ودينيا ومهنيا, فإنها تحضر في « أعمدة الغبار» باسم الطبيب «ميساك», والمترجم حمزة الديك, والوسيطة الغجرية مرجانة, وزوجها الجوّال سالم المغربي, والتاجر رمزي الترك, وصديقيّ الأدهم خليل سمعان وزوجته ماري.
إن هذا التناص في أسماء وأدوار ومواقع ومهن الشخصيّات ما بين «أعمدة الغبار» و«قصر المطر» لا يشير إلى مجرد حضور النّص السابق في النّص اللاحق حضورا مكرّرا وسطحيا, بقدر ما يشير إلى تمثل إستراتيجيته السردية وتوسيع أطرها وخطوطها عبر إدراج شخصيّات رئيسة جديدة لها وقعها الخاص في ذاكرة المتلقي مثل شخصية الأميرة «جيهان» أي «أسمهان» التي أغنت البرنامج السردي بشخصيتها الإشكالية, وحضورها الآسر, ومذكّراتها, وأوراقها السريّة التي تستأمن الأدهم عليها.
الأحداث
ويمكن معاينة التّناص أيضاً من خلال تشرّب واستثمار وتحويل «أعمدة الغبار» للأحداث في «قصر المطر», ومنها: حملة الإرهاب التي قادها «كاربيه» ضد سكّان الجبل على أثر اختفاء قطة «موريل» المدلّلة! ورحيل سلطان باشا إلى منفاه بعد انكسار الثورة, والقبض على عشرات الفتيان من الجبل بتهمة الانضمام إلى العصاة وزجّهم في مستودعات الفحم, أو نفيهم إلى جزيرة الموت, أي مستعمرة «غويانا», المعزولة عن العالم. وانتقام الفرنسيين الرهيب لدم «بوكسان», وحملة زراعة أشجار الكينا في الجبل وقاية من الأوبئة, ودخول الجنرال غورو إلى دمشق ووقوفه على قبر صلاح الدين قائلا: ها قد عدنا ثانية يا صلاح الدين! وتنفرد «أعمدة الغبار» بتوسيع دائرة الأحداث عبر إدراجها موضوع اللقى الأثرية وتهريبها إلى بيروت والمتاجرة بها شأنها شأن «الماريجوانا» كثيمة رئيسة في إستراتيجيتها السرديّة.
المرجعيّات النّصيّة
يبدو «التّناص» نقطة التقاء بين ذاكرة النّص, وذاكرة المؤلف, وذاكرة المتلقيّ)7(. وتتحقّق «ذاكرة النص» عبر انفتاحها على النصوص السابقة وتفاعلها معها. ومن هنا جاءت الوثائق التاريخيّة, والمذكّرات, واليوميّات المحوّلة في «قصر المطر» حوارا مع التاريخ والنّص والراهن والآخر في آن معاً. وقد استثمرت «أعمدة الغبار» هذه المرجعيّات النّصيّة مثل: مذكّرات الجندي الفرنسي في «الفرقة الجهنميّة»خلال مهمته في الجبل, وثائق المعارك التي خاضها الثوّار ضد الفرنسيين في معارك: المزرعة والمسيفرة والكفر, نصوص تتعلّق بعقيدة التقمّص من كتاب الحكمة, كتب التحريم التي صدرت بصدد عزل سلطان باشا عن قاعدته الجماهيريّة, خطب ومراسلات رسميّة, أغان وحكم وأمثال شعبيّة. ثم وسّعت حدود هذه المرجعيّات بإضافة أوراق ومذكرات سريّة شائقة خاصّة بأسمهان, تكشف عن شخصيتها المركّبة والإشكالية والقلقة, وعن علاقتها بالفرنسيين والألمان والإنكليز, ومحاولتها استثمار هذه العلاقة لصالح أبناء بلدها, وما انتهت إليه من خذلان وخسائر, توجّت برحيلها الغامض لتبقى لغزا في موتها كما كانت في حياتها.
الّلغة
تخرج اللغة في كلتا الروايتين عن مسار وظيفتها التواصلية المباشرة, إلى دائرة المجاز والانزياح الدلالي, وتصل أحيانا إلى حدّ مغادرة سرديتها كليّاً والاستغراق في سياق شاعري لا يمثّل منطوق الشخصيّات بقدر ما يمثّل صوت الراوي/ المؤلف الحقيقي, الذي يقتحم البرنامج السردي بصيغة ضمير الغائب نازعا قناعه, ومعلنا صراحة ومواربة عن مقاصده, ولا سيّما في رواية «أعمدة الغبار» التي تنحرف بين مسافة سردية وأخرى عن الشاعرية لتقع في فخّ الإنشاء والتزويق اللفظي.
إن التّناص الأسلوبي على مستوى اللغة يعزّز مجمل التّناصّات السّابقة ويتناغم معها, بما في ذلك التّناص على مستوى العنوان المجازي الذي تتماثل صيغته التركيبية والنحوية والمجازية في الروايتين: «قصر المطر», و«أعمدة الغبار».
وأمام معيارية الفصحى التي تتسيّد البرنامج السردي لا تخلو بعض المسافات والمشاهد الحوارية على وجه الخصوص من تطعيمها باللهجة الدارجة في كلتا الروايتين, وفي الوقت الذي بدا فيه الحوار في النّص السابق«قصر المطر» محدودا جدّاً, وغير موظّف توظيفا يفعّل السرد ويكشف عن دواخل الشخصيات وسلوكها ونواياها, فإنه في «أعمدة الغبار» يتدارك هذه الثغرة, ويسهم في تحرير السرد من صوت الراوي الأحادي المهيمن, متيحا المجال أمام الشخصيّات وخطاباتها التي تكشف عن دوافعها وتعلّل مواقفها وردود أفعالها, وبذلك يكتسب رهان النّص اللاحق على محاكاة النّص السابق وترميم فجواته مشروعيته الفنيّة والإبداعيّة.
لا يتوقّف «التّناص» على النصوص السابقة فحسب, بل كلّ نصّ يتناص بهذا القدر أو ذاك مع الواقع ومعطياته. وقد نهل الكاتبان من بيئة واحدة بمفرداتها الطبيعيّة والاجتماعية والاقتصادية والسياسية في مرحلة تاريخية واحدة. ومن البديهي أن يتشابك نصّاهما وأن يتداخلا, ولكن الحكم النقدي في التّناص لا ينشغل بالبيئة التي أنتجته, بل بالنّص وحده فيما إذا كان سابقا أم لاحقا, وبما أن «قصر المطر» قد أنجزت في العام 1993, وطبعت في العام 1998, و«أعمدة الغبار» طبعت في العام 2008, فإن ما لا يقلّ عن خمس عشرة سنة تفصل بين النّصين, وهذا ما يجعل من «قصر المطر» النموذج الريادي السابق الذي تحقّقت من خلاله علاقات التناص في «أعمدة الغبار». وهذه العلاقات لا تقلّل من قيمته الإبداعية بل تحفّز على قراءته والكشف عن فرادته الأسلوبية وتقنياته, فما النقد في النهاية ـ على حدّ تعبير محمد مندور ـ إلا «فنّ تمييز الأساليب».
الهوامش:
1ـ بختين, ميخائيل: الكلمة في الرواية, ترجمة يوسف حلاق, وزارة الثقافة, دمشق 1988, ص 31, وما بعدها.
2 ـ كريستيفا, جوليا: علم النّص, ترجمة فريد الزاهي, دار توبقال, الدار البيضاء, 1991, ص 78.
3ـ ساميول, تيفين: التناص ذاكرة الأدب, ترجمة د. نجيب غزاوي, اتحاد الكتاب العرب, دمشق, 2007, ص 19.
4ـ ينظر: يقطين, د.سعيد: الرواية والتراث السّردي, رؤية للنشر, القاهرة, 2006, ص 14, وما بعدها؛ و بوخاتم, د. مولاي علي: مصطلحات النقد العربي السيماءوي, اتحاد الكتّاب العرب, دمشق, 2005, ص 186.
5ـ رضوان, محمد: أعمدة الغبار, وزارة الثقافة, دمشق, 2008.
6ـ عزّام, ممدوح, قصر المطر, ط1, وزارة الثقافة, دمشق 1998.
7ـ ساميول, تيفين: التناص ذاكرة الأدب, مرجع مذكور ص 97.