تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


جســـــد المــــرأة يتــكلم

كتب
الأربعاء 21-10-2009م
منار ديب

في روايتها الجديدة «اسمه الغرام» تتبع الكاتبة اللبنانية علوية صبح استراتيجية تتيح لها الإطلال على عالم أنثوي كامل، فهي إذ تنقل بوصفها إحدى شخصيات الرواية التي لديها الاسم نفسه «علوية» والمهنة ذاتها «الكتابة»

حكاية البطلة «نهلا» عنها وعن صديقتها الحميمة «سعاد» التي اعتادت أن تلعب دور المستمعة المخلصة فإنها توهم القارئ بواقعية قصتها، وخاصة مع اختفاء البطلة ووقوع مسؤولية كتابة قصة حياتها على علوية.‏

خلف حجب العالم التاريخي وخاصة في بلد كلبنان، تغوص الكاتبة لتقارب أكثر وجوه شخصيتها فردانية وحميمية، علاقتها مع جسدها، فالبطلة نهلا التي تنحدر من أسرة ريفية تنشأ في مناخ من المحرمات المرتبطة بالجسد أساساً، وحيث يهيمن الذكر ويتاح له أن يعبر عن نزوعات جسده بتباهٍ كما هو حال أخيها جواد، لكن نهلا التي تملك شعوراً حاداً بجسدها وهويتها الأنثوية تبدأ سلسلة من التحديات لسلطة التقاليد الراسخة، يدعمها بحياء والدها المحب والمسالم، وتقف في وجهها والدتها التي تبدو كامرأة تكره أنوثتها.‏

انتقال العائلة إلى بيروت وإكمال نهلا لتعليمها خلال سياق اجتماعي تاريخي تكاد الكاتبة تحاول اختزال تأثيراته إلى الحدود الدنيا، سيعني المزيد من التفلت من السلطة الاجتماعية والرقابة، والبطلة التي تمتلك خيالاً أدبياً وشغفاً بقراءة الشعر وكتابته تنتقل من رومانسية افتراضية إلى رومانسية معاشة، وتقع في حب الشاب هاني وهي في سنواتها المدرسية الأخيرة وتستمر العلاقة في مرحلة الجامعة، يرفض أهل نهلا طلب هاني الزواج منها، وتتزوج نهلا من سليم الذي يكبرها بسنوات دون أن تكن له أي عاطفة ودون أن تكرهه أيضاً، ويسافر هاني إلى فرنسا مع اندلاع الحرب الأهلية.‏

العلاقة بين هاني ونهلا تعود لتتجدد حتى بعد إنجاب نهلا لطفلين تصف الكاتبة علاقتها الخاصة بهما في تفاصيلها الحية، ويندر أن نجد نصاً عربياً تحدث عن مشاعر الأمومة بهذه الشفافية وهذا الصدق، وخاصة معالجة الكاتبة المدهشة لحالة الرضاعة، وكل ذلك يندرج في إطار فحص علوية صبح الدقيق لشعور البطلة بجسدها، الذي لا يقتصر على الحب والجنس، فالكاتبة تنصرف عن تاريخ البلد المضطرب لتقف عن كثب على تاريخ وذاكرة جسد، من الصبا الفائر إلى تسلسل الترهل وكآبة ذبول الجمال.‏

وإذ تقدم الروائية نماذج نسائية مختلفة، لصديقات الضيعة اللواتي كبرن وانتقلن للعيش في بيروت وعرفن مصائر مختلفة، سعاد وعزيزة ونادين وهدى، فإنها تقدم نماذج لأجساد منها من أصابه المرض فكره نفسه كما في حالة سعاد، ومنها من تعهر وتحول إلى وسيلة لتحصيل الرزق كجسد عزيزة، ومنها من توجه نحو خيارات مثلية كنادين، ومنها من حقق أشواقه كلها في إطار مؤسسة الزواج كما في حالة هدى.‏

لكن جسد نهلا هو جسد الحب والرغبة، أو الغرام كما يجب أن يسمى، والغرام هنا حالة لا تعترف بالعادة، ولا بمرور الزمن، بل إن الجسد يشف ليتجاوز نفسه ولا يعود بحاجة للآلة التي لا قيام للحب الجسدي من غيرها، فعجز الجسد، لا ينقص من قوة مشاعر نهلا نحو هاني، وابتلائه بالأمراض لا يشكل حاجزاً من النفور، إذ تتغزل البطلة بختيرة بطلها ورائحة أدويته.‏

اللقاءات المتباعدة بين هاني ونهلا لا تطفئ من جذوة مشاعرهما، وإذ تحافظ نهلا على سرية علاقتها، وتبقي عائلتها بمعزل عن أي هزات، فإن أناقة علاقتها مع هاني تجعل من القسوة بمكان وضعها ضمن ما يسميه العرف الاجتماعي خيانة زوجية، فللجسد منطقه وللحب سبله، والرغبات الأصيلة الحارقة، تنشئ عالمها الحميم في الظل غير آبهة بمواصفات اجتماعية ذات طبيعة مختلفة، ولأن نهلا تملك صفات بطلة فإن الرواية لا تكرر بوصفة خلاصية تصلح للجميع ولا تروج لشيء بل تكتفي بأن تروي حكاية.‏

نهلا استثنائية بقدر ما هي مألوفة، وظرفها استثنائي، فعدم تحقق قصة حبها المبكرة مع هاني بالزواج يوفر الابتعاد الضروري عن روتينية العلاقة اليومية، وقيام العوائق يعطي الإمكانية لسرد قصة حب عظيمة كما في الروايات العاطفية الخالدة، وليست صدفة تلك الإشارة لرواية غابرييل غارسيا ماركيز «الحب في زمن الكوليرا» التي يهديها هاني لنهلا، ولا تتراءى نهلا للكاتبة واقفة على متن سفينة في آخر الرواية، كما في الإبحار اللانهائي لبطلي رواية ماركيز المسنين في سفينة نهرية تحمل علم المرض.‏

«اسمه الغرام» التي حفلت بأوصاف جسدية صريحة، فصيحة أو عامية وخاصة في الحوار، استندت الرواية إلى فهم تجريبي وخبرة إنسانية، قدم الجسد بحالاته المختلفة منكسراً وحيداً، فاعلاً ومشاركاً وحياً، وليس كمعطى منفصل عن الذاتية بالتأكيد، فحياة نهلا هي حياة جسدها، لا لأنها أنثى فحسب، فعلاقة نهلا وهاني كانت مجبولة بالعواطف ولم تكن علاقة جسدين في حالة من العمى، فالأجساد الواعية كانت هي الأفق الأكثر إنسانية في الرواية.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية