عندما صدر هذا الكتاب الذي طبع منه نحو مئتي ألف نسخة، في عام 2006 في تركيا، أثار زوبعة في الأوساط التاريخية والأكاديمية والسياسية ذلك أن الكاتبة خاضت في تفاصيل حياة أتاتورك الشخصية من خلال سيرة لطيفة خانم أفندي التي مارست وخلال فترة زواجها دوراً ريادياً في قضية تحرر المرأة في الجمهورية الحديثة التشكل وفتحت بشخصيتها القوية والمؤثرة أوسع الأبواب لتقوم بعد ذلك بدورها الفعال في المجتمع.
فبعد موت لطيفة خانم تم اكتشاف حقيقة مهمة، لقد رحلت عن هذا العالم ولم تتفوه بكلمة واحدة عن سنوات علاقتها الزوجية بمصطفى كمال.. ماتت لطيفة خانم من غير أن يفهمها أحد- على حد قول الكاتبة تشالشلر- وكانت حزينة جداً لأنهم لم يفهموها، لكنها خبأت بعناية وثائق كثيرة جداً من شأنها أن تساعد على فهمها وحفظها في صندوقي أمانات في بنكين مختلفين في اسطنبول.
وبعد وفاتها أثارت الرسائل التي خلفتها وراءها اهتمام تركيا بأسرها، والصحافة في المقدمة ، ونشرت بعض الصحف معلومات تقول إن دفاتر مذكراتها محفوظة في بنك سويسري، فكرت عائلتها بأنه من الخطأ ، تقاسم الوثائق العائدة إلى لطيفة ضمن إطار العائلة فتقرر تسليمها إلى الهيئة الرسمية للتاريخ التركي وتبين أن لطيفة خانم قد عملت بمفردها كمؤسسة للتاريخ وخبأت أشياء كثيرة بما فيها يومياتها، وأنه لا يمكن كتابة تاريخ الجمهورية مالم تتم دراسة هذه الوثائق .
تبدأ حكاية لطيفة أوشاكي ابنة تاجر السجاد الثري حيث استضافت مصطفى كمال أتاتورك في قصرها عندما دخل إلى مدينة أزمير في عام 1922 سوف تحكي لطيفة لاحقاً للصحافة لقاءها الأول بالباشا، فتقول «كنت مبهورة بشجاعته ووطنيته وروحه القيادية ، على رغم من عدم معرفتي به قبل ذلك طلبت منه أن يحل ضيفاً علينا طيلة فترة إقامته في أزمير».
لطيفة ابنة معمر بيك وعدوية خانم تمت تربيتها بعناية فائقة حيث أحضر لها أبوها مربية من انكلترا ودرست اللغة الانكليزية ولاحقاً تعلمت الفرنسية والألمانية واللاتينية وكانت تملك موهبة خاصة في الفن والأدب والموسيقا، كان جدها الأكبر صالح بيك قد أهداها بيانو أحضره معه من لندن وتلقت دروساً في العزف على البيانو ثلاث سنوات من آنا ريلكه ابنة أخ الشاعر النمساوي الشهير ريلكه، تذكر عازفة البيانو النمساوية هذه لطيفة في مذكراتها التي نشرتها بعنوان (نغمات لا تتلاشى) فقد كتبت عنها تقول: (من بين النساء التركيات اللواتي عرفتهن كانت لطيفة معمر وهي الأبرز، كانت في الخامسة عشرة من عمرها حين رأيتها للمرة الأولى هي الابنة الكبرى لتاجر تركي مليونير من مدينة إزمير، كانوا يقيمون في منزل بني على الطراز الإنكليزي ويعيشون في البيت حياة من النمط الإنكليزي كانوا يتقنون اللغات الأجنبية ويمضون بضعة أشهر من السنة في لندن وباريس).
كان معمر بيك يقول لبناته: (لن يظهر في هذا البلد رجال يستحقون الزواج ببنات تلقين التربية التي تلقيتنها إلا بعد بضعة أجيال).
ووصفها كاتب آخر يقول: (كانت تنظر مباشرة في عيني من يواجهها، كرجل ينظر إلى رجل، وليس بنظرات الانثى المحملة بإيحاءات جنسية خفية، كانت ماهرة جداً تصدر أوامر مختصرة وقاطعة، لكنها مع كل سطوتها قادرة على الحفاظ على لطفها وأنوثتها) اكتشف مصطفى كمال ولطيفة أحدهما الآخر، في مساءات إزمير الدافئة، كلما تبادلا الحديث والمناقشات كانت تجيد الكلام والدفاع عن أفكارها وترغب بتحرر جنسها وتحلم برفع المرأة التركية إلى السوية الاجتماعية والثقافية التي تتمتع بها المرأة في الغرب.. كانت بأفكارها هذه تخطف قلب مصطفى كمال، ما دفع أحد كتاب سيرة مصطفى كمال ليكتب عنها ( لقد اتحد في شخصها عقل رجولي متيقظ وجسد أنثوي جذاب) وآخر رأى أن مصطفى كمال كان يرى في لطيفة نسخته المؤنثة.
ربطت بين لطيفة ومصطفى كمال علاقة مساواة تنأى عن التراتبية، ففي تلك السنوات كان الشائع أن تخاطب المرأة زوجها بلقبه الرسمي مثل «سيدي» أو سيدي الباشا أو سيدي البيك فكانت مخاطبة لطيفة للقائد الوطني بكمال يثير عدم الارتياح كلما خاطبته لطيفة باسم كمال احمرت النساء.
حرجاً واشتاط الرجال حنقاً.
كان ثمة من يعدون ذلك منها ميوعة ودلالاً وآخرون يعدونه نقصاً في الاحترام، كتاب المذكرات يعتقدون أن طريقتها في المخاطبة كانت تثير حنق مصطفى كمال أيضاً... حتى الوثائق السوفيتية ذات الصلة بتركيا تضمنت الملاحظة حول طريقة مخاطبة لطيفة لزوجها (إنها لا تنحني أمام زوجها أترتمي على الأرض مثل النساء العباديات في تركيا) وعرف عنها أنها كانت شديدة التأنف، حافظت على ذوقها بعد زواجها أيضاً، فظلت تخرج في ثياب عليها من أشهر البوتيكات في أوروبا، كما اعتادت أن تفعل قبل الزواج، فلم تنقب وجهها ولا ارتدت ملاءة.
كانت لطيفة تفضل اللون الأسود، وتتحلى أحياناً بأقراط من ألماس، ولا تنزع من اصبعها أبداً خاتم السوليتر الذي تلقته هدية من أبيها.
الصحفيون الغربيون الذين زاروا أنقرة استفاضوا في الحديث عن أزيائها مع توكيد عدم حجبها لوجهها ،زوجة مصطفى كمال باشا الجميلة السيدة كمال هي العنصر الجديد في الحياة المدنية والسياسية في تركيا، تعرفت أنقرة حديثاً إلى هذه الشابة الاصلاحية التي اصطحبها زوجها فائق الذكاء من إزمير ترجلت من القطار في ثياب الرجال..
نشرت جريدة نيويورك تايمز في 14/3/1923 خبراً بعنوان: ثياب السيدة كمال نداء من أجل الإصلاح وأصبحت بذلك رمزاً لحرية المرأة التركية، فيما الصحف الغربية تسهب بالثناء على أناقتها الجريئة ومرافقتها لزوجها في جولاته التفقدية على قطع الجيش وفي حفلات الاستقبال، كان المدعوون يعجزون عن إبعاد أنظارهم عن ثيابها.. كانت امرأة أوروبية بكل معنى الكلمة في هيئتها ومخلصة في الوقت نفسه للتقاليد التركية.
أصرت الصحافة العالمية أن لطيفة كانت مؤثرة في الحياة السياسية في تركيا رغم أن علاقة لطيفة الزوجية مع مصطفى كمال دامت سنتين ونصف السنة وبعض المقربين كانوا يصرون أنه لم يكن هنالك عشق متبادل. وآخرون اعترفوا أنه وقع بالغرام للمرة الأولى بحياته، شهد زواجهما اندلاع ثلاث مشاجرات كبيرة انتهت الأخيرة منها بالطلاق، وكانت الغيرة هي السبب الرئيسي، وتم الطلاق بين لطيفة ومصطفى كمال ومرت سنوات على ذلك، كان يحدث لمصطفى كمال أن يفكر هكذا. قدت جيوشاً وفشلت في قيادة امرأة.
الكتاب: لطيفة خانم أفندي ومصطفى كمال أتاتورك - المؤلفة: ايبك تشالشلر- ترجمة: بكر صدقي - صادر حديثاً عن دار قدس - قطع متوسط 520