وما هي إلا نتيجة طبيعية للفاشية السياسية التي كانت تعتمدها إدارة الجمهورية الآفلة على مدى ثماني سنوات ماضية حاولت خلالها إدارة (بوش) توجيه أنظار الأميركيين إلى انتصارات وهمية لجيشها في العراق وأفغانستان، بذريعة حماية الأمن القومي الأميركي بحروب وقائية ومعارك استباقية لم تجلب غير الويلات الاقتصادية والاجتماعية للدولة العظمى وشركائها في المعسكر الغربي.
من هنا نجد أن أولويات أجندة الإدارة الأميركية الجديدة مد اليد للقوى الاقتصادية الآسيوية المتنامية وخاصة العملاق الصيني، علّهُ يساعد في تخفيف نتائج الأزمة المالية التي طالت كبرى الشركات الاقتصادية انطلاقا من البنوك وصولاً إلى أسواق المال والأعمال، وترجع الأسباب إلى حالات فساد ضخمة متورطة بها شركات أميركية مهمة من خلال التلاعب بدفاترها الحسابية وبأرقام مبيعاتها وعوائدها تحت رعاية وحماية طغمة سياسية حاكمة لايهمها من السياسة سوى تنمية مبالغ عمولاتها وملء جيوبها من الشركات التي تنتمي إلى مجالس إداراتها، وكان الكتاب الذي صدر قبل عدة أعوام للصحفي الأميركي (جيمس ستيورات) وهو صحفي متخصص في (الوول ستريت) سوق المال الأميركي، تحت عنوان (وكر اللصوص)، قد حذر من نتائج حالات الفساد التي تنمو سريعاً في الأوساط الاقتصادية الأميركية بمشاركة شخصيات رسمية، حيث لاقى الكتاب معارضة شديدة وصلت إلى حد وصفه بـ (معول الهدم للمعجزة الرأسمالية الأميركية)، لكن ما آلت إليه الأوضاع الاقتصادية والمالية في النظام الرأسمالي أعاد لهذا الكتاب ألقه بعد أن تبين أنه كان عبارة عن إنذار مبكر للسياسيين الذين وقعوا في الفخ الاقتصادي وسهلوا وصول الكارثة المالية من خلال اعتماد نهج مغاير لحركة تطور التاريخ.
لا يمكن فصل الأزمة المالية العالمية وتبعاتها الحاصلة في الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا عن المناخ السياسي العام الذي كان يسير على هذه البلدان قبل الأزمة وأثناءها، ومن المفترض أن تمثل الإدارة السياسية الإطار الحصين للواقع الاقتصادي والاجتماعي للبلد، لكنه لم يكن كذلك بالمطلق في هذه الدول التي غاصت في أتون سياسة الاستعمار والأطماع الاستعمارية.
وقد قرأت إدارة الرئيس (أوباما) المشهد بشفافية في محاولة منها لتشخيص الواقع من جميع الجوانب قبل الإقدام على خطوات تنفيذية، وبالرغم من توافر العديد من الخبراء في مجال السياسة والاقتصاد في الإدارة الجديدة، بعضهم بالأساس من منتقدي سياسة الرئيس (بوش) التي تتحمل وزر هذه الأزمة بكل أبعادها وجوانبها، التي اعتمدت جانب القوة التي تمتلكها أميركا في حروب لا مبرر لها، لم تأت نتائجها في غير المصلحة الأميركية العليا فحسب، بل أكثر من ذلك نجد أن ما قامت به إدارة المحافظين الجدد جعل شعوب العالم تزداد كرهاً وحقداً على أميركا وعلى سياساتها التي أدت إلى حدوث خلل وفوضى في النظام العالمي الجديد، ولا سيما أنها لم تنجح في تحقيق أي هدف من أهدافها المعلنة لهذه الحروب، سواء لجهة نشر الديمقراطية أم محاربة الإرهاب وغير ذلك من مبررات واهية لا وجود لها إلا في مخيلة صقور البيت الأبيض الذين اصطادتهم سلاحف الصحراء معلنة عن فشل سياستهم وخاصة في منطقة الشرق الأوسط التي تعتبر المنطقة الأكثر أهمية في الأجندة الأميركية سواء لجهة موقعها الجغرافي كمنطقة ربط مهمة بين الشرق والغرب أم لمحتوياتها من الذهب الأسود الذي هو عصب الحياة في المجتمعات المتقدمة، وكثيراً من الإجراءات الآنية والاجتماعات والمؤتمرات التي كانت تقوم بها إدارة (بوش) من أجل دعم عملية السلام في هذه المنطقة (مؤتمر شرم الشيخ - اجتماع أنابوليس وغيرهما) ما هي إلا لإقناع حلفائها في المنطقة العربية بتبنيها سياسة السلام وخاصة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، إضافة إلى طمأنتهم بعدم التخلي عنهم وعن مصالح بلدانهم المرتبطة بالعجلة الأميركية، وما كان على مدى ثمانية أعوام من عمر إدارة بوش لا يعدو كونه سياسة النفاق التي تبطن غير ما تعلن وما كنت تمثله ما هو إلا حالة من الهروب إلى الأمام من التزامات يفرضها المنطق والتاريخ.
كنا نتوقع من الوفود الأميركية التي تزور دمشق في هذه الآونة أنها تحمل رؤى جديدة وأفكاراً إيجابية لإدارة الحوار مع سورية بعد قطيعة غير مبررة اختلقتها الإدارة الأميركية السابقة، بعيداً عن النمطية التقليدية في المطالب الأميركية المظهر والإسرائيلية البعد، وقد أثبتت الأيام والأحداث أن سورية جزء مهم من أي حل في المنطقة وهي ركن أساسي ومحوري في عملية استقرار المنطقة برمتها، وهي ترفض بشكل قاطع سياسة الإملاء من أي كان، لكنها في الوقت ذاته لديها القدرة على إقناع الطرف الآخر من خلال الحوار الجاد والموضوعي بعدالة قضيتها، وصوابية مواقفها من جميع الأحداث في منطقة الشرق الأوسط، وهي تؤمن بأن لكل طرف مصالحه وحاجياته، ومع وجود التوازن والندية في العلاقات بين هذا وذاك، يصل كل طرف إلى مبتغاه دون المساس بالمصالح الحيوية والقومية للطرف الآخر.
لكن على ما يبدو هناك بعض الشخصيات الأميركية لم تعتد أن تحمل معها مبادئها وأدبياتها الحضارية المعلنة في الدستور الأميركي عندما تأتي لزيارة منطقة الشرق الأوسط، ربما لأنها تعودت أن تمارس ساديتها على الشعوب العربية، ويقابل ذلك انحناء تلك الشخصيات بلا تردد أمام حائط البراق معلنين الطاعة والولاء والدعم اللامحدود لحكومة الكيان الصهيوني، ننصح هؤلاء إما أن يغيروا ما تختزنه عقولهم من أفكار بالية غير قابلة للتسويق في بلد كسورية، وإما أن يوفروا ثمن تذاكر الطائرة لأنهم سيضيفون أعباء اقتصادية على خزينة بلدهم دون فائدة.