من حقيبة، أو من مغلف كبير ينسلون كتاباً حصدوا أوراقه مؤخراً من حقول اللغة والأدب، يفتحون أولى الصفحات ليباركوها بإهداء وتوقيع لأديب محبب، أو لأديبة أثيرة، لصديق يحب القراءة أو لرفيقة مثقفة! تدفعهم حماسة الطزاجة الوليدة بين دفتين، لتوزيع الابتسامات والإهداءات بالجملة وقد يفصلونها على مقاس هذا أو تلك.
دفعني إلى هذا الحديث أكثر من باعثٍ، منها زاوية الزميل «ديب علي حسن» الاسبوعية حيث يختار كتاباً من مكتبة الرصيف مازال يحمل توقيع وإهداء مؤلفه الموجه لآخر بغض النظر عن ماهية، وكينونة، وصفة هذا الآخر، ليقدمه لنا، ما أثار الحزن في نفسي مرة، والرعب مرة أخرى...
وسأخبركم لماذا بعد عدة أسطر! باعث آخر هو تلك الأحاديث المتهكمة- أحياناً- والتصرفات اللا مبالية لبعضهم إزاء كتاب أهدي إلى أحدهم، سمعت أن أحدهم يتعمد نسيان كتاب مهدى إليه لتوه في وسائل النقل العامة ولنا أن نتخيل مايكمن أن يؤول إليه مصيره!.
ورأيت مرة شاعراً يغادر أمسية وبيده كتاب لم يجف حبر الإهداء المكتوب عليه، ليتنازل عنه دون أي اكتراث لآخرين، أما الباعث الثالث فهو أنني أصدرت مؤخراً مجموعة قصصية وأهديت نسخاً كثيرة حملت توقيعي- على تواضعه- فداخلني شعور بالخوف أن يؤول مصير أحدها إلى ماسمعت ورأيت، وقد حاولت الالتفاف على الأمر بقولي لأحدهم: احتفظ بالإهداء والتوقيع فقد أحظى بمكانة رفيعة يوماً ما، وعندها يمكنك عرضهما في مزاد علني فيكون كسبك أكبر.
قطعة الروح
باعتقادي يكون الإهداء في حالتين: إهداء متقن يحمل قيمة أدبية أو معنوية ويُخصّ به عدد محدد من الأدباء أو النقاد، أو المثقفين، وإهداء مجاملة يكتب على عجل إما لجهل الكاتب بالآخر المهدي إليه أو لرفع العتب، أو هو الحرص على كلمات قليلة لاتحتمل تأويلات أخرى.
يحمل الإهداء بمعناه الحقيقي رسالة مكثفة من الحب قد يكون كلمات قليلة أو ومضة شعرية أو مفتاح أبواب للتواصل قد تفتح، ولكن ماذا يكتب الأدباء في إهداءاتهم؟
ثمة نوعان من تلك الإهداءات فهي إما من المؤلف إلى كتاب وأدباء، أو من المؤلف إلى أشخاص عاديين يشاركون المؤلف فسحة صداقة أو تعارفاً أو حب القراءة:
نماذج
فيما يلي عدد من الإهداءات التي أنسخها عن كتب أهديت إلي، وعدد آخر منها طلبت من بعض أصدقاء أدباء اطلاعي عليها وهي جميعاً مغفلة الأسماء ومنها:
- إنها أرواحنا التي مازالت تضج بحب الحياة (سيبقى للكلام عبق السنابل الخضراء في أيام موحشة) نفتش عن ذواتنا في التفاصيل (كل الكلام حجارة تعلو ليرتفع الجدار، وكلامنا الأحلى قصيدة عاشقٍ.. ألقته في القفر الجراد) الآن أدرك..
لن أجوب الدنيا وأجمع كل هذه البيادر من الحب.. لك حفنة من كلام وموسيقا (لأنه أوان تفتح الكلام..) إليك أيها الرفيق والصديق أهدي باكورة أعمالي علّ رقة أعماقك تتوه في صدق الكلمات (هذا النزيف أنقله وأضعه بين يديك ليورق شعراً) لأنها ليست مجرد كلمات بل ضوع ألم، الأصدقاء الجميلون في منتصف القلب تماماً، فرح الخطوة الأولى يشبه مهمة الولادة، حين يزداد الحلك ينتظر المرء ضوء القمر.. يا للحياة بلا أمل.. مع الأمنيات الطيبة
اسمعك تقول أقوال أهل الجنة، وأقرؤك تكتب كلمات أهل النار محبتي وتقديري، كلمات بسيطة خرجت من الأعماق يبقى صداها في أرواح من نحب تزرع الحب والفرح..
الواشي الصامت
ذات قصة وصفت القلم بأنه واشٍ صغير، نزق يطبع القبلات على أصابعنا ليستدرجها إلى فعل الكتابة، نحشوه بآلامنا وفوضى مخيلتنا فيمتص حزننا وأسرارنا لكنه مايلبث أن يتحول إلى نساج ماهر يحوك المكائد ضدنا فيفشي كل ما أودعنا في أحشائه.. هكذا هي الكتابة فعل كشف يحيلنا إلى آنية شفافة، تستنزف أعماقنا تمتد رصيفاً في ذواكرنا تتحول إلى بائع متجول يعرض بضاعتنا على أرصفة الفرجة..
كتب كثيرة كثيرة قد لاتستحق حبر كلماتها، وقد تندب الحروف حظها العاثر واستباحتها بأيدي من لايعي تماماً ماذا يعني أن تكتب! لكنني هنا لا أتناول قيمة الكتاب بل قيمة الإهداء ومعناه بالنسبة لصاحبه، لعلي أشبهه أحياناً باعتراف بالحب يقوله رجل لامرأة، قد لاتبادله المشاعر لكنها يجب أن تحرص على العناية به وترده بلطفٍ بالغٍ، إن كان أحدنا لايعترف لصاحب كتاب بقدرته على الكتابة فليحفظ ود الإهداء في غياب صاحبه.
على الرصيف
يطفو في مخيلتي سؤال: لماذا تواجد تلك الكتب التي تحمل تواقيع مؤلفيها وخط أيديهم على قارعة الأرصفة؟ ثمة بالطبع أكثر من احتمال، قد يرث بعضنا مكتبة لايستحقها لجهلٍ بقيمة ما تتضمنه جنباتها، ولعزوف يعانيه الوارث عن القراءة، فيعمد إلى بيعها أو يطلب من آخرين اختيار ما يريدون منها! صنف آخر من أصحاب المكتبات المنزلية يضيق المكان في بيته بتلك الأموات الصامتة فلا يرى بداً من التخفف من جزء منها بيعاً أو هبةً!.
وقد لا يتورع بعضهم عن ملء فراغ أكياس سوداء بكتب يود التخلص منها بأي ثمن.. وثمة احتمالات أخرى.. يجمع بين كل تلك الكتب- الضحايا مصير واحد: العرض على أرصفة الطرقات بأثمان بخسة..
نهاية محزنة
في ظل العزوف عن القراءة وانهمار وتدفق نتاج المطابع اليومي أعتقد أن مكتبات الأرصفة ستزداد وستحظى بتنوع ولربما يكثر زبائنها وصائدو الكتب العتيقة الحافلة بحبر الإهداءات والتواقيع، تخيلت أن كاتباً ما كان يقلب الكتب على أحد تلك الأرصفة التي باتت شهيرة في دمشق وغيرها من المدن فوقع على أحد كتبه مذيلاً بإهداء وتوقيع لأحد الأصدقاء أو الأدباء! بربكم ماعساه يشعر في تلك اللحظة بالذات؟ هل يتألم، يسخر، يضحك، يفرح بعودة غائب ضنّ عليه أحدهم بمأوى؟؟.
أرجو ألا أتعرض يوماً لموقف مماثل- فبإمكان كل من يود التخلص من مكتبته أن يزيل كل الأوراق التي تحمل إهداءات وتواقيع مؤلفيها وليجمعها على سبيل الذكرى ،أوحفظاً لماء وجه الكلمات والحبر، فلربما استفاد ذات يوم منها بجمعها في كتاب أو غير ذلك..
بعض الإهداءات قطع من الروح فلا تتركوها لغبار الأرصفة.