الذي يعطينا صورة واضحة عن الرؤى التشكيلية المتداولة في الفن السوري المعاصر، والتي تتبع حركة التاريخ، في البحث عن مناخ شرقي وتكاوين معمارية محلية، ومن هذا المنطلق نستطيع أن نستعيد شيئاً من وضوح الصورة التشكيلية المتفاعلة مع انطباعات العيش في الأمكنة المفتوحة على التاريخ، إذا استعدنا شيئاً من وضوح صورة بعض المعارض الجماعية التي تقام في العاصمة دمشق.
ومنذ بداية النهضة الفنية السورية الحديثة في نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات، كان طموح بعض الفنانين السوريين المحدثين متجهاً نحو صياغة لوحة محلية تؤكد ملامح إسقاط الذات على قماش اللوحة عبر معطيات التراث، حيث لجأ هؤلاء إلى تكاوين البيوت القديمة وأجواء التراث الشعبي في محاولة الوصول إلى لغة تشكيلية جديدة، تمزج مفردات الماضي بالواقع وبالحداثة... بمعنى أن تلك التجارب قدمت طروحات تشكيلية جديدة على الأقل عبر الاستفادة المباشرة من معطيات الحداثة الأوروبية والتفاعل مع تاريخية المكان، وهكذا كشفت بعض التجارب الرائدة عن وجهها المبتكر والجديد ورفعت مسائل تشكيلية جوهرية تركزت حول علاقة اللوحة بالتراث المعماري والشعبي وبالحداثة وبالتالي بهموم البحث عن خصوصية تشكيلية مميزة ومتطورة، هذه العناصر اكتسبها بعض رواد الحداثة في حركتنا التشكيلية السورية عبر احتكاكهم المباشر بتجارب الحداثة الفنية في باريس وروما (الاهتمام بتشكيل الأشكال وإعادة صياغتها من منظور معطيات الفن الحديث عبر التأكيد على المساحات واللمسات اللونية المتحررة والمباشرة) فاللون يستشف كلون صريح يعكس تقلبات المشاعر والأحاسيس ويحمل وهج الأضواء المحلية وانعكاساتها على التكاوين المعمارية المرسومة (تجارب: ميشيل كرشة، ناظم الجعفري، ممدوح قشلان، أسعد عرابي، عبد المنان شما، غازي الخالدي وغيرهم) إلا أن أسعد عرابي تحديداً لم يبرز فقط كفنان تعبيري مرتبط بالمنظور المعماري المتوارث من لوحات الرواد الأوائل، وإنما برز أيضاً في مراحله الأخيرة كفنان تجريدي صاحب لمسة لونية ملتهبة تحولت في خط تصاعدي أو تطور روحي نحو اللونية المحلية بعد استقراره في باريس، فاللون والضوء كانا في تجربته بمثابة التبشير بقدوم الموجة الشرقية المتوسطية في التجارب الاختبارية في باريس في الثمانينات والتسعينيات، فعرابي أعطى اللوحة التجريدية منعطفاً جديداً تبلور فيمابعد في مظاهر التأكيد على اللون المتوسطي كمنطق لتأكيد استمرارية ارتباطه بألوان الطين الدمشقي وبدفء الأمكنة البحرية في صيدا، التي غذت في نفسه قدرة البحث عن استقلال فني وهوية فنية بديلة عن معطيات التأثر بلونية التجريدية الفرنسية لذلك فهو يلتقي مع غيره في مرحلة التأسيس وبدايات الانطلاقة من أحياء دمشق القديمة ويفترق عنهم في محاولته اليومية تطوير غرائزيته التلقائية التي ساعدت على تحقيق الانفلات من أطر الأشكال المعمارية المألوفة والبحث عن إشعاعات ونورانية اللون في المشهد المعماري المحلي، ربما لأنه بقي على ضفاف الشكل وعلى حدود النغم التجريدي المستمد من الذاكرة البصرية المباشرة ومن تأملات تكاوين العمارة في الهواء الطلق، ولقد ساعدت تجارب بعض فناني الرعيل الثاني في جيل الحداثة السورية في الوصول إلى أجواء تشكيلية جديدة، حيث لجأ العديد من الفنانين إلى أجواء العمارة المحلية القديمة للقيام بتجارب جمالية تأليفية ومتعددة عكست أحاسيس الارتباط بنبض التراث المحلي وأجواء العمارة القديمة في المدن السورية (تجارب: عبد الرحمن مهنا، غسان صباغ، أحمد إبراهيم، ناثر حسني، محمد علي الحمصي، غسان جديد، مروان بطش، مأمون الحمصي، سالم الشوا، عز الدين همت، علي سليمان، سهيل معتوق، علي الصابوني، محمد ديب المصري، بطرس خازم، جريس سعد، خالصة هلال، ماريو موصللي، أسماء فيومي، وغيرهم) ولاتزال التجربة التراثية تبحث عن رؤى مغايرة وجديدة من خلال تجارب عدد كبير من الفنانين الشباب الجدد، الذين يتابعون استلهام أجواء العمارة القديمة والزخرفة الشرقية، إلا أن ما يؤخذ على بعض التجارب الجديدة التي تجسد تكاوين البيوت والأحياء المستمدة من العمارة المحلية القديمة هو أنها غالباً ما تظل جامدة ورتيبة، بحيث يمكن إدراجها ضمن التجارب التسجيلية أو الصالونية، وهي بالتالي لاتقدم أي جديد على بعض التجارب الاستعراضية الساكنة التي عرفها الفن السوري في مراحل سابقة، ( بالأخص تجارب الرواد التقليديين الأوائل) ماعدا بعض الاستثناءات القليلة من ضمنها (تجارب: شفيق اشتي، مأمون البوشي، فاخر أتاسي، موفق مخول، يوسف البوشي، عماد جروة وغيرهم) وهكذا تبرز لوحات فنانينا كقصائد حب لأجواء التراث المعماري المحلي، فالطرب اللوني المتغلغل في نسيج اللوحة يعكس عفوية الارتباط بالمناخ المحلي المشرقي، وإذا تتبعنا تجارب فنانينا التي بدأت في الثلاثينيات بصياغات تسجيلية وكلاسيكية وهواجس سياحية (تجارب: توفيق طارق، محمود جلال، زهير الصبان، عبد الوهاب أبو السعود، وغيرهم) ثم تطورت على أيدي العديد من فناني الرعيل الثاني وحققت مجدها في تجارب فناني الحداثة التشكيلية باعتماد الصياغة العفوية المتحررة التي جعلت المشاهد المعمارية تتخلص من قشورها الخارجية مقتربة من حركة الداخل أي حركة المشاعر والأحاسيس من خلال اللمسات اللونية العفوية والتلقائية والمباشرة.
وعلى هذا الأساس أصبح المشهد المعماري المحلي مجرد مدخل لقطف المناخ اللوني الشرقي والغوص أكثر فأكثر بتعبيرية اللون وحركة الضوء بهدف الامساك بإيقاعات تشكيلية جديدة تعكس التوترات الخفية لمشاعر وانفجارات الداخل بانسجامها وتناقضها، وفي بعض التجارب وجدنا محاولات لصياغة ألوان وتكاوين العمارة المحلية بإحساس تجريدي خالص، بمعنى أن المساحة التي تتألف من طبقات لونية كثيفة أو سميكة تبدو منسجمة مع أجواء الطين الدمشقي، ومرتبطة بمنطلقات المناخ اللوني الذي يجمع فناني البحر المتوسط، حيث يبرز الضوء الشرقي مشرعاً على الأحاسيس وعلى مرايا الذاكرة أو على مناخ لوني أكثر شاعرية وعلى غنائية مستمدة من الينبوع التاريخي والبيئوي ذاته، فاللون والضوء وغنائية التمازج مابين الحرارة والرطوبة، الظلال والأضواء، نجدها تطل في لوحات فنانينا الذين تعاملوا مع أجواء التراث المعماري حيث تظهر كعناصر أساسية أو كنبرة صافية تعني الانتماء إلى عمارة محلية مميزة بمناخها وتاريخها وعطائها.
adibmakhzoum@hotmail.com