فلما كشفت لهم الطبيعة عن الخواص الشافية لبعض النباتات والأعشاب، أقبلوا عليها،
وصار العطّار ملاذاً لكل من أصابه المرض وعذّبه الداء: يجد في أعشابه ونباتاته ناجع الدواء، ويتذوق من مساحيقه وخلاصاته أكاسير الصحة والشفاء.
وانقلبت الغابات والسهول والوديان، صيدليات طبيعية، يستمد الناس من أعشابها، وشجيراتها، وقشورها، وجذورها، وأوراقها، وأزهارها، وثمارها، وعصيرها وبذورها، أدوية لمختلف الأمراض والأدواء.
وتضافرت قوة الملاحظة مع الذكاء الفطري والتجربة المستمرة، على إكساب العطارين الأوائل مقدرة التمييز بين الضار والنافع من النباتات، مع الإحاطة بخواصها.
وكان للمصريين القدماء نصيب كبير من هذه المعرفة، منذ القرن الثلاثين قبل الميلاد، وكذلك الإغريق الذين ضربوا بسهم وافر في هذا الميدان، فكان منهم علماء أمثال «أبو قراط» و«غالينوس».
ولما رحل «ديسكوردرس» إلى مصر، إبان الدولة الرومانية، اكتسب معرفة واسعة بكثير من النباتات والأعشاب.
وأتى العرب، فعرفوا مجموعة كبيرة أخرى من هذه النباتات، وأقاموا في بغداد أول صيدلية منظمة تمد الناس بالأدوية والعقاقير.
وكان «ابن البيطار» أول عالم عربي عرف خواص النباتات الطبية ووضع فيها كتابه «الجامع الكبير» الذي حوى وصفاً دقيقاً لألفين منها..
ولم تلبث خطوات العلم أن تقدمت رويداً رويداً، وأخذ علم الكيمياء يستوي وينضج، وبدأ علماؤه يبحثون في أسرار المادة وطبائع الأشياء، وتفتحت أبواب المعامل والمختبرات لكل مجهول من المواد والنباتات، تتلقاه في أنابيب الاختبار، والبواتق والمعوجات، بالبحث والتجريب.. فتكشفت النباتات والمواد التي كان يتداوى بها الأقدمون عن جواهرها الفعالة المختبئة في بعض أجزائها.. وتتابعت غزوات الكيميائيين، وتوالت انتصاراتهم واكتشافاتهم، فاستخرجوا «المورفين» من «الأفيون» و«الكوكايين» من أوراق «الكوكا» و«الديجيتالين» من «إصبع العذراء» و«الكينيين» من «الكينا» وغير ذلك من العقاقير التي تضافرت جهودهم على تنقيتها، وتحسين طرق استخلاصها،واستغلالها في القضاء على مسببات المرض، وتسكين الآلام، وتوفير الصحة والعافية لبني الإنسان.
وتطور العلم تطوراً مكنّ الكيميائيين من النجاح في صنع كثير من تلك العقاقير في المعامل والمختبرات والاستغناء عن استخلاصها من النباتات، فتيسر بذلك تحضيرها بكميات كبيرة ونفقات قليلة. ومضى العلماء والأطباء يصلون بحوثهم وتجاربهم، فكانت تلك العقاقير والمستحضرات الطبية متعددة، تساهم بنصيب وافر في تخفيف آلام البشر ومقاومة الأمراض.
وختاماً مازالت معامل البحث كل يوم تضيف جديداً ومفيداً للبشرية..فتحية لأولئك العباقرة من علماء الطب والصيدلة والكيمياء، الذين وهبوا الإنسانية المعذبة أرواحهم وعقولهم، وخاضوا معركة الألم والمرض مستبسلين.. فكان لهم الفوز والنصر المبين، وللإنسانية الأمن والسلام، والخلاص من ربقة الآلام..