حصَّتين تعليميتين. مع أنَّ المسرح يذهب بالعقل نحو التفكير وليس التلقين, فيربِّي قيم السجال, ويعلِّم الحوارَ, الجدلَ؛ الديمقراطيةَ, القراءة الفصيحةَ, النطقَ, الحركةَ, التخييل. بل ويمكن أن يُستخدم كوسيلةٍ تعليمية فيقدِّم المتعة والمعرفة. وهو وحده من بين الفنون الذي له أهداف تربوية, فيتكفَّل بتفجير الطاقات الإبداعية عند طلاب العلم والمعرفة, فيتمُّ الإفراج؛ الكشفُ عن الكثير من المواهب؛ بإتاحة الفرصة للمتعلمين للتنفيس عن انفعالاتهم.
فلو جسَّدنا على المنصَّة حادثة قتلٍ, تُرى إلى أين نذهب؟ أإلى تمثيل الجريمة كما نتخيَّل- كما القواعد المسرحية, أم نذهب إلى أبعد من ذلك فنصنعُ, نعيدُ صنع الجريمة كما وقعت؛ فنذهبُ إلى الوهم؟. فرقٌ بين الوهم والتخييل. إنَّ المسرح وإن فرجانا الرعبَ, فليس الرعبُ الذي يزرع المرض في النفس/ الذات. بل الرعب الذي يقوِّي الحياة في النفس, فنرفض وقوعه علينا أوعلى سوانا؛ الجريمة على المسرح ليست الجريمة التي حدثت في الواقع, بل هي الجريمة التي ندفع وقوعها. إنَّ الإنسان لا يُولد شريراً بالفطرة ولا بالوراثة, لكنَّك عندما تمنحه(حقَّ الاقتراع والتصويت) وهذا ما يطالب به المسرح في قول (لا) أو (نعم) من أجل تحسين أوضاع معيشته, ولا تقدِّم له شيئاً سوى القهر والذلَّ فهو سيتمرَّد , وسيحاول أن ينتزع حقَّه الذي اغتصبته, وعندئذٍ ستسميه شريراً في شرائعك وقوانينك. المسرح هنا سيتدخَّل ثانيةً, فيضيءُ ويكشف في لحظةٍ «تنويرية» ما جرى في الظلام؛ في الكتاب المدرسي العربي الذي لا يقوم بدورٍ تعليمي بل بدورٍ وظيفي يخدم مَنْ يخدم ليكرِّس الطاعة لأولي الأمر.
مرعبٌ ما يجري- منظومةٌ تربوية تحضُّ الأفراد والجماعات في برامجها التعليمية لتقتات على الخيالات والخرافات, كأنَّها تخاطب مجتمعاً مجرَّداً من خصائصه الإنسانية, فتراها تكرِّس صنماً/وثناً؛ بمثابة نجمٍ- أملٍ, فتؤسِّس بذلك لعبادةٍ (لا عقلية) لأوثانٍ, لأوهامٍ سيكولوجية تشيع الاغتراب, وتأخذنا نحو الكارثة والهلاك . في حين تزدري هذه المنظومة الفنون والمسرحَ على الأخص, لأنَّه لايني يحطِّم الأوثان ويرفض أن يتحوَّل إلى أفيون سوسيولوجي أو إلى كحول للجماهير.
المسرح وُلِدَ ولا يزالُ يتناسلُ بصفته جنينَ حريَّةٍ و خلاصٍ أرضي, لأنَّه يريد يُوقعنا في المستقبل؛ يذهب إلى المستقبل بمشاركته, بمشاركتنا له اللعبة الجمالية- لعبة العقل الذي يرفض تجريد الجماعة؛ الأسرة؛ العشيرة؛ المجتمع- الشعبَ من ممارسة دوره التكويني, من حقيقته الإنسانية, لأنَّه وحده من يمزج بين الخيالي والواقعي, فلا يترك الخيالي يحتكرُ مفاتيح أبواب السماء, ولا الواقعي يسيطر على الأرض فلا يسمح لأحدٍ أن يقيم عليها. طبعاً هو لايقومُ- المسرح- بدور الإله الحاضرِ ولا الإله المحتجبِ الذي في المسرحية اليونانية(الجوقة). هو يقوم بخلق حركة دراماتيكية تقوم على التناقض والصراع, إذ لا أحد يحتكر المأساة – الكارثة. والأنظمة التربوية العربية إلى الآن لم تدرك هذه المسلَّمة البديهية التي يشتغل عليها المسرح؛ والتي سبق وأدركتها المنظومة التربوية الإغريقية قبل أكثر من 2500 سنة, حين كان حضور العرض المسرحي أكثر من واجب سياسي وأكثر من طقسٍ ديني واجتماعي وثقافي, حيث كانت العقلية اليونانية الحاكمة ترى أنَّ غريزة بقائها- بل خلودها في المسرح وليس في السياسة, وهذا ماتركها تُدشِّن مجتمعاً / عقلاً إنسانياً أكثر شجاعةً ونبلاً وصدقاً, في حين انطوت سيرة أممٍ وحضارات , سير عروق وشعوب وطبقات ودول على قوَّتها- قوَّة عضلاتها الجسدية وليس العقلية؛ لأنَّها كانت تعيش ككائناتٍ طفيلية لاشيء عندها سوى أن تأكلَ وتبتلعَ وتسحقَ وتدمِّر – فدمَّرت أوَّل ما دمَّرت نفسها, وبأبخس الأثمان. مع أنَّها حاولت طيلة حياتها أن تنتزع شهادات حسن سلوكٍ من الفلاسفة والمؤرِّخين الذين تحوَّلوا خوفاً من آلية قمعها إلى (دكنجية) يقدِّمون خدماتٍ عامة.
anouarm@aloola.sy