كان ذلك عندما كنت أتصفح الانترنت ووقع نظري على معرض فني في الهواء الطلق أقيم على الجدار الفاصل بين شرق قرية باقة بالضفة الغربية وغربها داخل الخط الأخضر في فلسطين.
ولا يمكن لأي متأصل أن يدّعي أن تلك الأعمال كانت خالية من الابداع لمجرد كونها أعمالاً تسجيلية لحقائق بصرية، أو لإبراز الحقيقة البصرية الواقعية للحياة كما لو كانت صوراً فوتوغرافية.
خلاصة القول: إن الفن كتقليد يعني محاولة محاكاة المرئيات في العالم الخارجي والنقل الأمين لتفاصيلها.
وحيث إن الفنان هو في الأصل إنسان لديه مشاعر ووجدان وردود أفعال ومواقف متباينة، فهو إذاً يعتمد على ذاتيته ويعتبرها أساساً جديداً ومنهلاً صادقاً في التعبير والإبداع الفني في الفن التشكيلي وعلى هذا فما يرسمه هو في الحقيقة المضمون الفكري والوجداني، أي بمنطق الإدراك الكلي الذي يقوم على أبجدية حديثه للمفاهيم والأفكار والمشاعر بعيداً عن أبجدية المرئيات والمدركات الحسية الملموسة.
أداة للتعبير عن الألم والأمل
إن نجاح أي عمل فني يقاس في قدرته على التأثير وإثارة مشاعر المتلقي وهذا لا يتم إلا بالجمع بين الحقيقة الموضوعية من أشكال ومرئيات وبين الحقيقة الذاتية المتضمنة لمعان دفينة في عقل ووجدان الفنان.
بهذه اللغة التشكيلية الواقعية البسيطة التي تطورت لتعمل على نقل الواقع بكثافة فنية وإحساس أعلى والتي تعبر عن تظاهرة فنية احتجاجية حاول فنانون فلسطينيون تذكير العالم بمأساتهم في ضياع الأرض والحقول الخضراء.
مقابل الجمال الذي يوجد داخل الفنان أيضاً بركان صارخ يتبدى في الألوان التي نادت بفتح الأبواب بين الفلسطينيين والفلسطينيين، صرخات رسمت بمداد من دموع وأجمل ما فيها تلك الوجوه العابسة التي سيطرت على حيز كبير من اللوحات فقد رسمت هذه الوجوه بألمها وسخريتها من الحاجز الممتد أو الأفعى الممتدة التي لن تعجز الفلسطينيين في البحث عن أمل وانتظار حياة.
يرى أحد الفلاسفة أن العالم مملوء بالجدران لكن الجدار عند الفلسطيني مختلف جداً، عصي عن الوصف بما يحمله من قبح لكونه مصدراً لألم مستمر لا يتوقف يتمدد يومياً بقوة وصلابة وعنجهية وعنف مفترساً الفضاء والأرض والإنسان، يتعرج كثعبان ضخم لا مثيل له لذلك حاصره هؤلاء الفنانون بفنهم فأصبح جدارية ضخمة وتحول إلى حالة من التحدي والتعبير والصراخ المرير والبكاء وتغير لونه الرمادي الكئيب ليكون أداة مباشرة للتعبير عن الألم والأمل معاً عبر تجسيد رسوم وشعارات بالغة الدقة في الرسم والتعبير.
حنظلة يعود من جديد
في مناطق مختلفة تجذبك الألوان من لوحة لأخرى وكذلك الشعارات التي خطت بألوان تراوحت بين الأسود والأحمر لتكون خير تعبير على ما شهدته المنطقة من ويلات وألم ومعاناة والأبرز كان للشخصية الكاريكاتيرية التي ابتدعها الفنان الفلسطيني ناجي العلي «حنظلة» فما تكاد تمر بقطعة من الجدار حتى يلتقيك حنظلة فينبئك بتفاصيل المعاناة والألم التي أحدثها الجدار حين فرّق بين حدود الأراضي الفلسطينية وأهلها كما يلحظ الراصد للمشهد تكرار بعض الرموز والشعارات بحيث تعبر مجمل الرسومات عن حلم راسميها وطموحاتهم وهي عبارة عن حالة تجلٍ أو تمرد يقودها الفن استخدمت الألوان بكثرة في الرسوم وحتى في كتابة الشعارات لكن من الملاحظ أن الرسم بدا أقوى في حال بقائه مفرغاً إلا من السواد الذي يراه المشاهد أصدق الألوان تعبيراً عن الألم وحجم المأساة وممكن اعتبار هذه الأعمال الفنية وسيلة احتجاج سلمية واسعة تذكرنا بما رسم على جدار برلين أو سور برلين الذي تضمن مئات الرسومات التي انتقدت الأفكار العنصرية مجتمعة وكثير منا يعرف أن مقطع جدار برلين الذي دمرته قوة الشعب الألماني ما زالت تباع حتى الآن كقطع تذكارية وهدايا ومناظر جميلة.