ونحن مطالبون دائماً كعرب بأن نختصر أنفسنا ونتراجع بقضايانا إلى الحد الأدنى فذلك يؤمن للسياسات العربية ممراً آمناً ما بين أمانة المسؤولية والأداء القائم بصورة عملية, وباستمرارهم يستفيضون مشاريع وأفكاراً ونحن ننحسر ونسحب معنا قضايانا وحدود فاعليتنا.
والأصل أن يتوازى الوعي بمادته الفكرية وحركة تأثيره مع درجة الخطر في التحديات الوافدة ومع مستوى الخراب والسلبية في الداخل العربي نفسه, ومع ذلك فإن الكثير من الكلام والكثير من الدموع والكثير من الصرخات قد لا تنتج أي أثر محسوس في مثل الحال العربي الأصم والأبكم, وهناك بالتأكيد وجهات نظر كثيرة ومتكاثرة حول هذه المتلازمة العكسية, اكتب أكثر تخسر أكثر. اصمت أكثر تخسر أقل, والقضايا العربية ما عادت عربية أصلاً, لعلي أذكر هنا بفكرة أطلقها ذات مرة وليم كيلي نائب وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأوسط في نهاية السبعينيات في القرن العشرين حيث يقول.. لا تتحدثوا عن العرب بعد الآن فلم يعد هناك عرب تكلموا عن عراقيين وسوريين ومصريين ولبنانيين وسودانيين.. وعن اسرائيليين بطبيعة الحال بوصفهم جزءاً من منطقة صارت تسمى الشرق الأوسط, إن كل هذه المعالم والمعاني المؤلمة تتحرك باتجاهين نقيضين, في اتجاه تحاول أن تؤسس لنسق من القيم المستجدة على أساس العرق والدين والمذهب والأصل الاثني والطائفة وفي اتجاه آخر تؤسس لقابلية الاستجابة من الداخل العربي نحو ما يطلقه الغرب الامبريالي من أفكار ومشاريع وتسميات,
والاتجاهان معاً يلتقيان من منطلقين متضادين في نقطة واحدة تتمثل في صياغة الوجدان العربي الفردي والجمعي على قاعدة الانطلاق من الأمر الواقع والبحث عن الحل بطريقة تقطيع الأوصال واستيراد التناقضات واستيلاء الصراعات الدموية ثم التسليم لقوى الخارج بأنها هي المؤهلة لفك الاشتباك الدامي أولاً ولرسم خارطة الكيانات العربية والسياسات العربية على أساس جديد المهم فيه هو أن تلغى الهوية القومية وتندثر معها جملة الحقوق والقضايا المصيرية وتتغير معها قواعد الصراع مع المستعمر الخارجي ومع العدو الصهيوني تلك غاية مركزية ولا يضل عنها من امتلك الانتماء الصافي والمتابعة العملية لكل ما هو مخطط ومخبوء للوطن العربي, وما في المسألة من سر, لكن السياسات العربية هي التي تحاول أن تدخل كل القضايا في النفق المظلم وأن تترك هامشاً إجبارياً أمام الذهن العربي ليمضي في استطراداته بأن كل شيء هو سر ويحتمل أكثر من تفسير.في هذه الآفاق العامة للمناخ السياسي العربي الرائج يطرح العمل العربي المشترك بكامل فقراته ومستوياته الآن, ليس في حدود القمة العربية فحسب وإنما في مستوى التفاعل الثنائي والانضباط على الحد الأدنى المصيري من المسائل الحساسة بحيث يريدون للقمة العربية أن تدخل في مناخ التيه والاغتراب وأن يتحول خط السير من القضايا المتناقضة إلى الحوار في أجواء المؤتمر, أن يتحول ذلك بحيث تتأكد فكرة إعاقة القمة بالنظر إلى تناقض المواقف وتباعدها, والذرائع أكثر من الهم على القلب, إن كل شيء صار يستحوذ على طاقة تحوله من مادة خلافية تحتمل وجهات النظر وتستوعبها إلى مصدر للصراع ومبرر لإنهاء تبني فكرة العمل العربي المشترك ولعل ذلك هو الاستجابة القصوى والخطيرة التي تتماهى مع المشروعات الكبرى المصدرة للوطن العربي, وإذا ما أعيا البعض الحيلة في تبرير موقفه دخلت إلى العلاقات العربية فكرة (الاشتراطات) بحيث يضمن موقف في موقف سلبي آخر فعلى سبيل المثال هناك من يقول لا تعقد القمة في دمشق إلا إذا انتخب رئيس في لبنان وهناك من يقول لا داعي لتمكين فكرة القمة مادام الظرف السائد يتحرك في مساحة من الحرية الجائعة والاستهداف الموتور, ثم هناك من يطرح بأن إرادة القادة العرب تعتمد على مدى الرضا عنها والقبول فيها من دوائر إقليمية ومن دول وراء المحيطات, باستمرار هناك نقطتان صعبتان تستعصيان على الفهم أحياناً واحدة منهما هي هذا الانخفاض في درجة حرارة الوجدان العربي إلى مستوى الصفر فما دون بعيداً عن الاحساس بالخطر والتبصر بالقادم الصعب والبديل الأرعن.
وتلك حالة كارثية إذ حينما يفقد العقل العربي إحساسه بالخطر والجسد العربي إحساسه بالألم تكون المؤامرة قد فعلت فعلها ويكون الزمان قد عدا وغادر الأشلاء المنهكة تتحرك وهي مثقلة بالقيد والنكسة والضياع بطريقة ارتكاسية تحدث بعض الاهتزازات لكنها لا تقدم سوى خطوات أخرى نحو الأسوأ وثاني النقطتين أن يتنازل صاحب القرار العربي عن ذاته ليربط كل وجوده بإرادة الأجنبي وبرغبة الأجنبي وبمبادرة الأجنبي وهذه كارثة أخرى وهي التي استجرت في هذه اللحظة السياسية الأمريكية إلى درجة الإملاء على العرب, وهي بذاتها التي استجرت البارجة الأمريكية (كول) في استفزاز واضح إلى الشاطىء الشرقي من البحر الأبيض المتوسط, هناك من يريد أن يوصل الفكرة إلى درجة التصديق بها والانضواء تحت راياتها المسمومة والمحمومة, الآن لدى العرب فرصة من خلال الألم والتحدي أن ينهضوا وأن يمارسوا دورهم ولو لمرة واحدة في خيار وقرار على قاعدة كل ما يجري في عالمنا الواسع والذي تجتمع فيه كل الإرادات لتتناقش وتناقش ووحدهم العرب يخالفون هذا المذهب.