ولكن.. ما الجمال? وهل نمتلك عيناً قادرة على التقاط مواطن الجمال وكشف بواطنه?
هل لدينا ذائقة تصغي إلى الجمال دائماً وتحسن رؤيته.. هل نشعر به أم ندركه إدراكاً.
يرى بعض الأدباء أن لا تعريف موضوعياً للجمال, فالتعريفات الموجودة تدلل على الفكرة القائلة: إن الفن هو ما يعكس الجمال, إذاً الجمال هو التعبير الحسي عن الفكرة على رأي (هيغل).. وبالطبع الشعر هو أحد تلك التعبيرات (الفنون).
في كتاب (الكون الشعري) يناقش الدكتور أحمد الخليل الكثير من القضايا المثارة في أصول القراءة الشعرية, كيفية هذه القراءة التي يفترض أن تتعامل من أن النص الشعري بداية وقبل أي شيء آخر على أنه حالة جمالية فريدة, وتضع جانباً المعايير التي تفرضها النظريات الأدبية.
يبدأ المؤلف بالحديث عن الظاهرة الجمالية والتساؤل هل الإنسان كائن جمالي? ليخلص إلى التأكيد على أننا مسكونون في قرارة أنفسنا بشبكة معقدة من القيم الجمالية, هذه الجماليات ينبغي لها أن تجعلنا قادرين على التعاطي الصحيح مع الكون الشعري الذي يعرفه:
(الكون الشعري كل متكامل متجادل متفاعل.. رؤية وحياة, انبعاث وانبجاس, واستشراف واكتشاف, وتمرد وثورة.. الكون الشعري إنساني الجذر, عرفاني التكوين, جمالي الحضور, فيه ما هو حسي وفكري, ولغوي وبياني وموسيقي وفني, وبيئي واجتماعي, ونفسي ورمزي, وميثولوجي ووجودي, وعلينا أن نتفاعل مع هذه المكونات جميعها من منطلق تذوقي جمالي صرف).
كون يشتمل على هذا الكم الهائل من المعارف والمعلومات, ولا يخلو من جماليات, لابد أن يكون له دور هام وأساسي في بناء منظومة قيمية أخلاقية, إلى جانب وظيفته الجمالية, فهو موجود بالأصل ليجسد (موقفاً جمالياً), فالفنون والآداب بوصفها شكلاً من أشكال التعبير الإنساني تنمي قيماً جمالية معينة تجعلنا بدورها أكثر إنسانية.
وبديهي أن هذه الجماليات لا تعني أن يكون الجمال موضوعاً بالضرورة بمعنى أنه قد تتأتى جمالية الفن الشعري من جمالية التصوير في الفن لما قد يكون قبيحاً في الواقع.
ولما تنبه أفلاطون الفيلسوف اليوناني إلى القيمة التربوية الكبيرة للشعر من منظور أخلاقي, وبدوره تلميذه أرسطو في (فن الشعر) أدرك الوظيفة السيكولوجية الهامة للشعر - في المآسي اليونانية - وهي تطهير الإنسان من القيم الرديئة, لما تنبها إلى وجود وظيفة تربوية أخلاقية أصيلة في الشعر, ألا يشكل ذلك مدخلاً للتساؤل: هل يهيئ الخطاب الشعري المناخ المعرفي المناسب للتفكير الإبداعي?
منذ منتصف القرن الثامن عشر, عندما ظهر مصطلح علم الجمال, كان أول من استخدمه الألماني بومغارتن, الذي أصدر كتاباً بهذا الاسم, تنبه المفكرون إلى العلاقة الحميمة بين ما هو جمالي وما هو فكري (يرى غاستون باشلار أن التلاحم وثيق بين القيم الروحية والجمالية من ناحية ومهارات التفكير من ناحية أخرى, فالشعر يوقظ العقل, ويهيئه لتلقي الأفكار غير المدركة..).
في المدارات الجمالية والمعرفية يناقش د. خليل الأفكار السابقة, فيسوقها في إطار شرحه (نظرياً) المفهوم الجمالي للشعر, بينما يأتي إلى الجانب التطبيقي في مداراته الوجودية السيكولوجية, مبرزاً نماذج شعرية يقرؤها قراءة (جمالية) تنتج فهماً صحيحاً لطبيعة النص المقروء, فكانت إضاءاته على موضوعة العدمية وإشكالية الوجود في رباعيات عمر الخيام, وموضوعة النرجسية وعشق المال عند المتنبي, على سبيل المثال, إذ يقدم للشاعرين قراءة مميزة تكشف وتجلو ما لحق بهما من قلة فهم وتدبر.
يرى د. خليل أن الشاعر العظيم يضاهي المؤمن العظيم, ويماثل الفيلسوف العظيم في رحاب القضايا الوجودية الكبرى وهو ما كان عليه عمر الخيام, الذي ارتقى بوعيه إلى البحث في الإشكاليتين الوجوديتين: الحياة والفناء (يعمل الفكر فيهما بعناد, ويعبر ضمناً عن احتجاج فلسفي مثير على تراجيديا ووجود الإنسان, لا يمكن أن يكون مفهوماً لا من قبل العامة من الناس, ولا حتى من قبل العاديين من العلماء والمفكرين.. وعلى ضوء هذه الحقيقة يتضح لنا سبب قدح أهل زمان الخيام في عقيدته ورميه بالكفر وما يقاربه, فالثقافة الأصيلة تمنحك الشجاعة الكافية لأن تقف أمام الإشكاليات الكبرى..).
يقول في إحدى رباعياته:
إن الذين ترحلوا من قبلنا
نزلوا بأجداث الغرور وناموا
اشرب, وخذ هذي الحقيقة من فمي:
كل الذي قالوا لنا أوهام
< لميس علي
الكتاب: الكون الشعري - المؤلف: د. أحمد الخليل - الناشر: وزارة الثقافة - دمشق 2007