سافر كثيراً وابتعد عن وطنه (فرنسا) ليقرأ العالم بعين غير تقليدية إنه جان غولميه الأستاذ المخضرم في مدارس سورية, مارس مهنة التدريس في دمشق وحماة وحلب واشتهر بعشقه لمدينة حماة تحديداً لبساتينها ونواعيرها التي كان يراها فريدة لا مثيل لها.
في بداية كتابه عن شارل ديغول الأديب يصارحنا قائلاً: (لن أنسى أبداً تلك النشوة الخفيفة, وتلك الفرحة التي كانت تنتابني كلما عثرت على مقالة أو عنوان, في فهارس المجلات التي لم يمسها أحد, أو تلك الصفحات القوية والمقنعة, فحيث كنت أبحث عن مهندس للحرب العصرية كان يتلقاني مفكر, كاتب قوي, بل فيلسوف, وحيث كنت أبحث عن أسباب للأمل, عثرت على قناعة بالغلبة).
ذلك أن (ديغول الديكارتي بامتياز) مقتنع بأن المشروع العظيم لا يمكن بناؤه قبل أن يسبقه الإعداد بالتأمل والفكر, فالرؤية الواضحة, والفكر الصائب, هما الشرطان الأولان لكل عمل ناجح, وأما العصمة المزعومة للطغاة الذين يدعون العمل من دون علم, ويخفون جهلهم بحجاب خادع من الحدس إنما هي عنده حماقة متعجرفة.
تستند أعمال ديغول كلها إلى الارتياب الشديد تجاه كل منهج يتربع الفكر فيه وينام. كره الدوغمائية, والتعميمات المفرطة, والعبارات الجاهزة التي يدعي الكسالى أنهم يحزمون فيها عقدة الأحداث, فكر حي وقوي, إذ يطرح جانباً العقائد المدرسية, ليس من باب التشكيك المتعمد, بل على العكس من ذلك, عطشاً إلى الحقيقة, كبرياء, استقلال فكر يحرص على سعة الانفتاح على الانطباعات والدروس تأتي بها الوقائع المتحركة والعديدة كل يوم من صوب, فالعقل لا يجد متكأ أميناً في منظومة ما وإنما في الأحداث ذاتها: تلك شهادة تستقيم في السياسة كما في الفن العسكري, في المدنية كما في العلم.
في فصل: ديغول والسياسة يسوق لنا جان غولميه نماذج من فكر ديغول النقدي حيث نجده ناقداً لاذعاً بحق الفكر, الذي بالغت به البرغسونية: (المفكرون الذين يسخرون نشاطهم للفكر من دون سواه يفقدون الشعور بضرورات العمل, إذ هم يتفحصون العمل بالأنوار الوحيدة التي تعودوها, أنوار الفكر المحض, فهم يحولون عجزهم عن الدخول فيه إلى نوع من الازدراء).
يقر غولميه أنه إذا توقفنا عن بعض مقاطع أحد كتب ديغول: (حد السيف) فإننا سنجدها إذا عزلت عن سياقها تبدو ذات نفس نيتشوي.
أيضاً سيلحظ القارئ جرأة رجل حرب على مناوشة أفكار فلسفية ومناقشتها: (لا شيء يحل في العمل مكان جهد الطبيعة ذاته, من هنا بعض الرجال من الذين لا يتميزون بالذكاء, ولا يتقنون البحث في الأفكار المجردة, الذين لا يتفوقون في أعمال الكتب ولا في النقاشات النظرية, يتحولون إلى ضباط متفوقين في ساحات القتال.. وما سماه الاسكندر (رجاءه) والقيصر (ثروته) ونابليون (نجمه) أليس بكل بساطة الثقة التامة بأن موهبة خاصة تضعهم في وجه الوقائع, في صلة وثيقة تجعلهم يسيطرون عليها دوماً).
ثمة رومانطيقية تفاجئنا في تعلقه في الدور الخفي للموهبة أو القدر المبهم!
يؤكد غولميه أن الصفحات التي تحمل النفس النيتشوي بامتياز, وهي من أجمل ما كتبه ديغول, هي التي وصف فيها الرجل الحازم: (إن الرجل الحازم إذا واجهه الحدث, يلوذ بنفسه.. يعانق العمل بكبرياء السيد.. يضفي على العمل النبل: من دونه يصبح مهمة عبر كتيبة, بفضله يصير لعباً إلهياً للأبطال).
ديغول ابن جيل: (حيث ينبغي إعادة صهر كل شيء, إن لم يكن إعادة صنع كل شيء) فهو يتهيأ لمواجهة الأحداث التي ستتدفق, وكله وعي بالطاقة غير المستعملة التي يشعر بها فيه: (أعرف ما قيمتي وأصدق ما يقال لي عنها) وتفادياً لأن يظن القارئ بأن ديغول كان نيتشوياً يؤكد بأنه لم يكن كذلك ولكنه يعلي شأن الإرادة ومغرم بالمجد: (لا يمكن إحراز شأن كبير من دون كبار الرجال, وهؤلاء كبار لأنهم أرادوا ذلك).
في الفصل الثاني: (ديغول والتاريخ) يعرض غولميه أعمال ديغول بين عامي (1920 - 1939) حيث يؤكد لنا أن ديغول بدأ الكتابة وهو ضابط شاب, فيتناول دراسته التي كان موضوعها (الشقاق لدى العدو) حيث تقود ديغول إلى اليقين بأن سياسة أمة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالوسائل التي تستعملها فإذا وهنت الوسائل الداعمة تحولت السياسة إلى خرافات.
يستغرق غولميه بدراسة خطب ديغول ودراساته العسكرية ويتناولها من جهة الأسلوب الأدبي مقدماً لنا المزيد من كتاباته حيث نجده قائداً مبشراً متفائلاً: (الأسوأ سينتهي, الأحسن سائر إلى الأمام).
أعمال وليدة فكرة وأسلوب متينين, إنها مليئة بشاعرية الفكر, (شاعرية القرن السابع عشر) كما تؤكد لنا دراسة غولميه, فلو لم يجد ديغول (في عشقه لفرنسا ولحرفة السلاح, سر الارتقاء نحو الإنسان, ولو لم يعرف كيف ينفث بالحياة أفكاره, بقوة الأسلوب, لبقي, وهو تقني ماهر في فن الحرب, شريكاً محترماً لدور نشر شارل - لا فوزيل المتخصصة بالأمور العسكرية). وما تحققت هكذا قط صحة قول يوفون من أن الأسلوب والإنسان متطابقان إذ وضع ديغول نفسه كاملاً في أعماله, حيث بالإمكان كما هو الأمر عند شاعر, استخلاص قسمات طبعه الروحاني والوضعي, مؤلفاً مع الجرأة والتفكير, ومع الروح النقدية.
الكتاب شارل ديغول الأديب, تأليف جان غولميه, ترجمة: سهيل شباط, صادر عن دار قدس / دمشق في 232 صفحة.