عندما صدرت مجموعة نصر الدين البحرة القصصية (هل تدمع العيون)، كتب عنها حنا مينه تحت عنوان (دفاع عن الواقعية)، وقسم ما كتبه إلى قسمين، تحدث في أولهما عن الواقعية عامة، وفي الثاني طبق الحديث على المجموعة المذكورة. وفي الآن نفسه كتب محي الدين رمضان حول قصص البحرة، وركز على دعوى البساطة فيها، واستعان بدرس البساطة لدى توفيق الحكيم.
قال حنا مينه إن الواقعية ليست تعبيراً عن العالم أو عن مذهب معين، بل هي طريقة خلاقة من طرق التعبير، كانت قبل الاشتراكية العلمية. والحادث الواقعي والتجربة الشخصية لا يكفيان لإطلاق الواقعية على هذه القصة أو تلك. ويتحدث حنا مينه عن الاتجاه المتطور في الواقعية الذي يقوم على ملاحظة تطور الحياة، والتوافق الفني، كما يؤكد أن الواقعية لا تخشى تعدد الأساليب، وأن مفهوم الأقصوصة قد تمركز حول الموقف النموذجي في الحدث.
وحين جاء حنا مينه ليطبق ما سبق على قصص البحرة، رأى أن هذه القصص هي حكايات، لا تميز بين الحدث الاجتماعي ذي الدلالة، وبين الحدث العرضي أو الجزئي. إن قصص البحرة تفتقد المركزية، وليس فيها مواقف نموذجية باستثناء واحدة. ولقد أراد صاحبها تقديم أفكار طيبة عن طريق نماذج طيبة، وهذا وحده لا يكفي، فالأسلوب أسلوب مذكرات، والوصف مصطنع، والتفصيلات زائدة، واللغة بحاجة إلى عناية قصوى، والحوار غير منسجم. أما عدوى البساطة فمردودة، لأن البساطة يجب أن تقوم على الخبرة، وليست ستاراً للضعف.
رد (عابر سبيل) ـ وهو اسم مستعار لنصر الدين البحرة الذي كان يقوم بتتبع النشاط والنتاج الأدبي عبر زاوية نقدية ثابتة في مجلة النقاد ـ رد على حنا مينه، فأخذ عليه تعريف الواقعية خارج المجتمع الطبقي، ومخالفة بليخانوف قوله بأولوية المضمون، ومخالفة ماوتسي تونغ أيضاً بتركيزه على الشكل وحده، وعدم مراعاة تلاؤم الشكل والمضمون.
في الوقت نفسه كتب هشام النحاس مخاطباً حنا مينه: «هل صحيح أن الواقعية صناعة مؤممة؟ ما هو المفهوم الواقعي في الأدب؟» وهشام النحاس من أعضاء رابطة (الكتاب الشباب) التي ضمت معه نصر الدين البحرة نفسه، وقد جاء في بيان هذه الرابطة التأسيسي أن أعضاءها يؤمنون بالواقعية «كطريقة للتعبير عن واقعنا الحي في حركة مستمرة، لأنها تنسجم مع متطلبات القوى النامية في مجتمعنا». كما جاء في مجلة الثقافة الوطنية، (منتصف تموز وآب 1956). وقد عارض النحاس ما ذهب إليه حنا مينه من أن الواقع موفور للجميع، وان الأصالة الفنية شرط كاف للأدب الواقعي. ويستعين النحاس بآراء إنجلز وستالين، ويخلص إلى أن الفارق بين الكتاب ليس فقط الأصالة والتجويد، فشرط الأدب الواقعي الأول هو فهم الواقع قبل التكنيك.
وكان كل من غازي الخالدي وياسين رفاعية قد كتبا عن مجموعة نصر الدين البحرة (هل تدمع العيون)، فقسمها الأول إلى ثلاث زمر: قصص التحليل، قصص تصوير النماذج الخاصة، أي الأطفال، قصص تصوير النماذج الشعبية المألوفة والمعروفة. ورأى أن القصص تعمر بحب الحياة، وقد كان الكاتب يختار فيها زوايا دقيقة من حياة الأبطال.
أما ياسين رفاعية فقد كان أقل حماساً وأكثر تدقيقاً، ويبدو أنه اتكأ في كتابته على مقدمة كتاب غائب طعمة فرمان ومحمود أمين العالم (قصص واقعية من العالم العربي). فرفاعية يحلل القصص واحدة واحدة، ويسجل لصاحبها مبادرته إلى الكتابة في أدب الأطفال، ولكنه يعارض البساطة، فهي تؤدي إلى السطحية، ويفضل عليها الغوص إلى الأعماق، لا ملامسة قشرة الحياة. وقد أخذ على البحرة إكثاره من الملاحظات الجانبية التي لا تخدم القصة. وأخيراً رد نصر الدين البحرة نفسه على حنا مينه تحت عنوان (لماذا لا نسميها واقعية اشتراكية)، وكتب أن الواقعية ليست نقلاً عن الواقع مضافاً إليه الفن. فالسؤال الأساسي هو: من أين ننطلق في أدبنا؟ وإلى من نكتب؟ وعمن نكتب؟
يعتمد نصر الدين البحرة فيما كتب على ستالين في كتابه (المادية الديكالكتيكية والمادية التاريخية) وعلى بليخانوف في كتابه (الفن والحياة الاجتماعية)، وعلى كتاب محمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس (في الثقافة المصرية). ويطالب البحرة بالواقعية الاشتراكية، ويعيد فكرة الموقف النموذجي التي ذكرها حنا مينه إلى فكرة الموقف ذي الحد عند سارتر، متسائلاً عن الاستشهاد على الواقعية بالوجودية، وعن الالتزام الذي أخذ به مينه في نقد مجموعته حسب طريقة واحدة في التعبير، أساسها الموقف النموذجي.
هكذا كان نصيب مجموعة قصصية لكاتب شاب قبل نصف قرن، فأين منه اليوم نصيب مجموعات بالجملة لكتّاب شباب وشيوخ معاً؟