فمن يطلبُ المتعة يرجو الآخر تقديراً، والمؤانس مستمتع بدوره وربما طالبُ الأنس يُسقِط بعضاً من أنسيته المعتبَرة على ما ليس منتمياً إلى جنسه حتى في أكثر اللغات قرباً عنده، من أقرب المقربين إليه كذلك جسداً وروحاً، وذلك ليمد في قواه ويستطيع تكيفاً مع وجوده )أستحضر الفرزدق وذئبه، وقبله الشنفري ومجتمعه «البرّي» في لاميته الكبرى(. ولكن المتعة هذه بالقدر الذي تكون داخلية، لأنها تبقي المرء مأخوذاً برغبة ما، رغبة هي جوهر متعته هذه التي يتكتَّم عليها محقّق المتعة والمستمتع، إنها في العمق اللجّي للذات، بينما الأنس فيمكن تعقُّبه والسؤال عنه، لأنه يستوجب على الأقل، حضور اثنين بالقدر نفسه تتطلب توافقاً مع الحاجة إلى المولّد الأنسي لها.
لا بأس هنا من أن أحيل القارئ إلى كتاب التوحيدي « ت 400هـ»، أي( الإمتاع والمؤانسة)، وأنا أعتبره كتاب النهار المقروء، كما أنه الأنس واقعاً أو المسرود ليلاً. إنه سرد لجمع غفير» إن جاز القول»، من المعلومات المختلفة تمثل ثقافة عصر التوحيدي الهائل التنوع، عصره الذهبي بامتياز جدير باسمه طويلاً في الثقافة العربية الإسلامية، وخلال أربعين ليلة وفي الليل الليل، يُظفَر بالأنيس يكون النديم، ويحل الشراب واسطة عقد قلوب، مرفقاً بكلام ليس كأي كلام( تُرى من كان يؤنس التوحيدي» يحكي له»، ووفق أي شروط؟). إن الشراب سرد قلبيٌّ على مستوى التناول الشُّركائي، وفيه عصارة حياة كائنات نباتية، والكلام سرد ذهني ، تخيليٌّ على مستوى التداول، وفيه عصارة حياة تصورات وأفكار مختلفة المقامات. إن الشراب حيلة مبتكرة للإفشاء بسرٍّ، ما كان له أن يصاغ قولاً ويدوَّن وهو في سرده المسموع لولا حصول المنادمة، وكأن المتعة لا تتمُّ إلا بالتخلي عن بعض من سرّيتها لأنها باطنة لصالح آخر، قبِِلَ أن يكون جلاباً للمتعة أو باعثاً ما لها. وتتوقف النسبة بين كل من الإمتاع والمؤانسة، على مكانة كلٍّ من صاحب المتعة والأنس أو الأنيس في القرب والبعد، وغالباً ما يكون المستمتع في موقع المستشرِف، وكأنه يستقطب الآخر بصفته نديماً منشوداً ومعروفاً، محفّزاً له على الاستمتاع وفق مناخ نفسي في القول: حكاية، طرفة، تسلية ما، وفي الفعل على صعيد الاطمئنان إليه واستحلائه وإلا لمَا تحققت المتعة.
التوحيدي ذاكرة نهارية تغذّي الليل لتبعد عنه وحشته، موته الرمزي، باعتباره رحماً عملاقاً، لتقليص المسافة بين نهار وآخر، وكأن المتعة هي دوام اتصال بالنهار من الداخل، وتوهيم الذات على أن الليل ليس أكثر من برقع يغطي وجهه اللامحدود، أو حجاب شفاف لا يمنع من رؤية المحيط به، والمسامرات تخفيف من وطأة الليل، ليكون كل ما يقال ويتم القيام به، وجهاً من وجوه السرد الحياتية، الاحتفاء بالليل تحت رعاية النهار ليس إلا، والتجلي في النهار ظاهراً ليتوارى السديم والمعتم في ثنايا المضاء، في لعبة مركَّبة.
ربَّما كان وليد إخلاصي داخلاً، في لعبة إيحائية تاريخية لا تنفصل عن راهنه، وهو إزاء روايته( دار المتعة)، وقد صدرت عن شركة رياض الريس، سنة 1991! ( دار المتعة) مَعلَم ثقافي ليليُّ الطابع! ثمة ثقافة ترتد إلى مئات السنين، والحدث الروائي يمارس حضوره الرمزي، وعبر سرد آخر تاريخي ثقافي آخر، في الجانب الآخر من الشرق ( شرق دار المتعة العثمانية، زمنياً)، يتمثل في مونتسكيو كما هو المستشهَد به، في ( رسائل فارسية)، كأن مونتسكيو هو الروائي الحي، الشاهد النهاري على ليل يتداعى أو ليل يوشك أن يبتلع من يلوذ به طلباً للمتعة والأنس، والرواية في سردها انبعاث حرارة خارجية في جسد يتوهن كثيراً، علامة تاريخية لجسد مرمَّز، يضم تاريخاً مثلما يقتنص المتماثل فيه من خلال ( دار المتعة) وهي تنهار في النهاية، في مدينة مميزة بالحركة في زمن محسوب ومرصود كذلك، إنما من خلال الدار وما يدور فيها، وما فيها من دوائر تُمهَر من داخلها، كون المتعة تبتلع الأنس فيها تدريجياً، وكأن ( دار المتعة) صورة مختصرة للمدينة والمدينة أكثر من كونها مدينة، إنها مجتمع وتاريخ وربما رؤيا قياماتية ، لوضع منذور بالانهيار المتخيَّل. إن الحكاية تفسّر وتحذّر وإن بدا عليها أنها تؤوّل وتحوّل من الداخل بإحالة سردية غير مسندة، إحالة تموّه وسيطها عن عمد ليدوم اعتباراً، أثراً ( سيقال الكثير عن دار المتعة، بل إن ما قيل فيها فاق كل ما قيل عن أي شيء في المدينة أو البلاد ولربما زاد في عدد كلماته عما قيل في التاريخ وأحداثه. ص18)، فتكون ( دار المتعة) خميرة أقوال متضاربة، استلهاماً لحكايات وأقاصيص تصل الليل بالنهار، كما هو شان العلاقة بين المتداول من أقوال، وغير المرغوب في قوله خشية أو من باب الترهب، فيصار إلى إيجاد ممرات طي الكتمان، كما هو دور اللغة في تراكم التجارب المودع فيها، كون المتعة هنا خارج نطاق المشاع، وإن أمر التفاعل معها على مستوى الرغبة، يؤمُّمها من كل احتكار فعلي، وعندما يكون الصوت الأخير هو صوت مونتسكيو، وهو شريك مساهم في الإحاطة بمفهوم المتعة عبر التاريخ، باعتماد مقبوس من( رسائلــه:» رسائل فارسية»)، فهو يكون هنا يماثل تجلّي سطوع نهاري، وتوقيف لفعل المتعة من الباطن، وقد جوّف وتنامى أمر الليل، وإزاحة الأنس إلى حالة الوحشة المقلقة والمريبة، لانتفاء التفاهم الذي يقوم على نوع من الندية أو التكافؤ لتكون الحياة أخصب.
لا يكون إمتاع دون وجود مؤانسة، دون وجود تبادل مواقع ليكون في مقدور كلٍّ منهما الاستمرار زمناً أطول. إن المتعة وقوع أحداث ليلية واستمرارها نهاراً، وكأن النهار بات في عهدة الليل، والليل هنا لا ذمَّة له باعتباره محالاً على ذات المتعة، على إلحاق الأنيس بالمستمتع، وكون الأخير يمد في الليل بينما يكون قد استنفد حدوده كثيراً، على الأقل كما هي المتعة الشهريارية والمؤانسة الشهرزادية، إذ إن اللعبة تتوقف بمجرد بزوغ العلامات الأولى للنهار فجراً،عبر صياح الديك، هذا الرمز الذكوري العريق منبّه الذكر، لتبدأ حياة جديدة ثمئذ وليطوى الليل نهارياً بانتظار دورة جديدة أخرى، يكون المعَد لليل قابلاً للسرد عبر وقائع نهارية مرئية أكثر.
وفي حركية الروابط هذه حتى الآن، نكون حيال إحدى أكثر القضايا خطورة وفتنة في الوقت نفسه، ألا وهي علاقة اللغة بمن يدير شؤونها ويثيرها، وهي بين الإمتاع والمؤانسة وكيف تزداد تنوعاً، أو تنحدر برأسمالها الرمزي من خلال أبعادها التمثيلية لِما يحدث في محيطها الاجتماعي.
أتحدث عمَّا يمكن للغة أن تقيم حدود اتصال بين من يتكلم ويجيد الكلام، ومن يصغي ويحسن الإصغاء، ليكون الدور التالي عكسياً، بين من يمارس الكتابة وهو في كامل يقينه، أن مجتمعاً كاملاً ينهض على عتبة كتابته المتنوعة يتحرى الحقيقة من خلالها. يكون السرد فعلاً ثقافياً وإن ارتكز إلى صور أدبية وشخصيات جرى خلقها في الأدب، أو رموز متنوعة الأبعاد في الكتابة الفكرية، أو أصوات وحركات في الموسيقى والتمثيل، ليكون الممكن أكثر معايشة متعة أكبر مع ضمان توفير مؤانسة أكبر بالمقابل.
إن عبرة عظمة السرد أي سرد كاعتبار، تتبدَّى في مقدرة الكاتب على إشعار القارئ أو المتلقي عامة، أن جوهر المتعة وضع مشاعي، وإن كان الدال عليها هو بُعدها الباطني العميق، لتكون المؤانسة ذات مذاق أكثر قابلية للتجديد والدخول في علاقة مفتوحة أكثر مع الإمتاع، أعني ليكون كلٌّ من الأنس والمتعة مفعَّلَي الحيوية الضامنة، لاستمرارية كل من الكاتب والقارئ. فالإمتاع واقعاً حالة مجهول في معلوم المؤانسة مثلما أن المؤانسة، في تصورها الذوقي والجمالي، لسان حال الإمتاع بصيغة كلام أو فعل محفّز.
إن استمتاعنا بقراءة ما، وفي وضع جسدي نفسي ما وذلك في تعددية مواقعنا، يعني في مطلق الأحوال شعورنا بتلك المؤانسة المطلوبة تلك التي يسهل الشعور بها، بما أننا مهيئون لها، كما هو المتوفر فينا لإتمام هذا التآنس، من خلال المحقَّق فيما يرتقي بنا مجتمعياً أو ذوقياً كأفراد!
الممتع والمؤانس توحيدياً هو فيما يجعله أثراً من أثريات النص ، إنه نقيض الانتثار عبر اسمه، حيث انتثاره داخله وفي ذلك يكون إمتاعه ومؤانسته، ليكون حاضراً بحسب فعل الرؤية الجمالية، أي تجاوزه بالقدر الذي يأتي قارئ- ناقد آخر، ليتجاوز سابقه وهي الركيزة المتحركة الكبرى لثنائية كل من الإمتاع والمؤانسة!