لذلك ليس غريباً أن تخيبنا تقييمات الروائيين الجسورة لرواياتهم، لكننا نغفر لهم.
ليس هذا حال الروائيين والشعراء فقط، وإنما السياسيون والدبلوماسيون عندما يشيدون في مذكراتهم بمواقفهم الصلبة وإنجازاتهم الخطيرة وتحدياتهم سواء للسلطة في الداخل، أو عدم خضوعهم للضغوط الدولية من الخارج، ويؤكدون على أدوارهم الرئيسة في صناعة الأحداث والتأثير فيها، ولا يتورعون عن تشذيب أشياء وإغفال أخرى، وتبرير ما لا تبرير له. لذلك يخوض المؤرخ معركة شاقة مع المصادر والمراجع من وثائق ومذكرات وشهادات.. فالتاريخ معرض لأسوأ أنواع الدجل والكذب، وعمل المؤرخ يحتاج إلى الكثير من التبصر في الفترة التاريخية التي يدرسها، بالإضافة إلى ثقافة واسعة ورؤية ناقدة... لكن ما الذي يدفع الأديب إلى ممارسة شيء شبيه بما يمارسه السياسي، فهو لا يحتاج إلى ابتداع مآثر ولو كانت أدبية، مادام يمارس في رواياته ما يشق على السياسي مجاراته؟!
إذا أردنا النظر إلى وضع الكاتب والأخذ بعين الاعتبار ما يشكو منه، فربما نعذره. يشكو الأدباء من التقصير الذي يواجهونه من النقاد والقراء، فيحاول الترويج لكتبهم بالإشادة بها بشتى الوسائل. فيقوم الواحد منهم بتشريح روايته وتقريظها، وهي مهمة حتى لو كان بارعاً فيها، ليس الأولى بها، وغالباً ما يسقط في شرك تقديره العالي لكتاباته، خاصة وأن الكاتب اعتاد أن يمنح لما يكتبه قيمة استثنائية، وقد يُقوِّل عمله ما أخفق في قوله، ويحمله من المعاني والأهداف والرموز أكثر مما يطيقه، ويسبغ عليه ما يتجاوزه فعلاً. فيقع في فخ نصبه لنفسه ويسيء إليه وإلى أدبه بإعلانات دعائية كان بغنى عنها. وبالتالي لا ينبغي أخذ ما يقوله الروائيون عن رواياتهم، على محمل الجد، لاحتماله المبالغة.
على كل حال، لا بأس بادراك الدوافع الكامنة وراءه، إن كل همه توجيه شيء من الاهتمام إلى عمله الذي يرجو منه الكثير. دون أن يدرك أن سعيه البريء أو غير البريء مضاد لجهده الروائي الذي ينتهي بإنجازه لكتابه ودفعه إلى المطبعة. ثمة الكثير من الأسباب التي يزعم أنها تضطره إلى هذا السلوك، مع الكثير من الادعاءات وبعضها صحيح، فمثلاً الزحام النقدي لمحترفي التجليط الأدبي تجعلهم لا يأبهون بكتابه، عدا أن المنابر الثقافية في الوطن العربي محجوزة للقلة، وأن النقد مبني على أسس غير قويمة، بتطاوله على أعمال أدبية جيدة، والمساندة لأعمال زائفة مشكوك بقيمتها. وقد يتباهى بأن هذا المناخ لم يغره على التواطؤ معهم على الخداع، ولم يتنازل، أو يتورط، محافظاً على عفته الأدبية.
هذا الوضع قد يحبط الشبان، هذا إذا ظنوا أن شغيلة الأدب طهرانيون. الأدب ساحة أسوة بغيرها، يرتادها الجميع ومنهم الانتهازيون وقليلو الثقافة وعديمو الضمير، وهم في النهاية ليسوا أكثر من متطفلين على أي عالم يتسللون إليه، سواء كان سياسة أو تجارة أو مقاولات....الخ. ما يجب أن نعرفه أن هذه الساحة ليست ملكاً لهم، ومثلما هي مفتوحة للاحتيال، مفتوحة أيضاً للمعارك الأدبية.
إذاً، فليُفسح المجال للنقد وللنقاد.
أما الروائي، فليبتعد قليلاً، فرصته السانحة كانت روايته، وهي فرصة هائلة، يستطيع من خلالها وبكل قوة اختراق العالم في صميمه، ليُعمل قلمه فيه فضحاً ونقداً وتنكيلاً، بل والعبث به والسخرية منه، أو تمجيد الحياة، وبث أفكاره مهما كانت مضادة أو مغالية. تلك هي سلطة الروائي التي لا تعادلها سلطة، ولا ينازعه عليها أحد.
في الرواية، وهي مجاله الأرحب، يستوفي الروائي فرصته كاملة، وما يضيفه فيما بعد، مهما كان مثيراً، لا يعني سوى الإيهام بقوة عمله، لكنه عمل آخر لم يستطع كتابته.