تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


كيسنجر بين الإحباط والتملق

دراسات
الاثنين 15-12-2014
عبد الرحمن غنيم

قبل حوالي أربع سنوات بدا ثعلب السياسة اليهودي الصهيوني هنري كيسنجر في غاية السعادة , لأنه توقع أن يعيش ليرى بأم عينيه حرباً عالمية طاحنة لا تبقي ولا تذر تتوج سلسلة الحروب التي كانت قد بدأتها أمريكا بالفعل منذ أوائل الألفية الثالثة والتي لم يخف كيسنجر دوره في رسم مخططها .

أما اليوم فإن كيسنجر يبدو محبطاً لأن هذا « الأمل « الذي حلم به وعاش بانتظاره لم يتحقق , ولا يبدو أنه سيتحقق !!‏

كان كيسنجر في ذلك الحين يبدو واثقاً تماماً أنه بفضل « القوة الوحيدة العظمى في العالم « , وبفضل تحكم اليهود الصهاينة بقرارها , فإن رحى الحرب العالمية الثالثة التي تدار بأسلوب « الخطوة خطوة « – على غرار دبلوماسيته الشهيرة – ستصل الى غايتها التي حدّدها اليهود الصهاينة لها .‏

لقد بدا كيسنجر آنذاك واثقاً من أن الطاحونة التي تدار من واشنطن , ولا نقول تديرها واشنطن وحدها , ستجرفُ في طريقها العرب متى تمكنت من أخذ سورية , ثم تطيح بالإيرانيين , ولن يجرؤ على اعتراض سبيلها حتى روسيا والصين . بل إن روسيا والصين – وفق ادّعائه آنذاك – ستسحقان إذا رفعتا رأسيهما . ووفق الخطة التي تحدث عنها كيسنجر آنذاك بلا حرج , فإنه بعد الحرب التي بدأت عام 2011 على سورية هناك حرب أخرى يسحق فيها العرب للمرة الثانية , حين تخرج إسرائيل لتضربهم بقسوة وبكل أنواع الأسلحة في إشارة الى ما تمتلك من أسلحة الدمار الشامل .‏

الآن , تغيّرت لغة كيسنجر , وتبدّلت لهجته . وما كانت حرباً طاحنة متدحرجة يبشر بها وقد تملكه الفرح , تحوّلت الى أزمات تحتاج الى حلول !! .‏

في قمّة مجموعة العشرين الأخيرة وقف باراك أوباما ليتحدث عن الولايات المتحدة باعتبارها « القوة العظمى الوحيدة في العالم « . بعده بأسابيع قليلة خرج كيسنجر ليقول لمجلة دير شبيغل الألمانية بأن على أمريكا ألا تفرض إملاءاتها على العالم , وألا تعتقد بذلك !! .‏

ما الذي حدث وجعل كيسنجر ينفس اليافوخ الأميركي من وهم « القوة العظمى الوحيدة « الذي كان هو نفسه من النافخين فيه ؟ .‏

ما حدث هو أن الحرب على سورية , وكانت وفق رواية كيسنجر خاتمة سلسلة الحروب على العرب , لم تنجح , وأن روسيا والصين لم ترتعبا من تهديدات كيسنجر وتقفا متفرجتين سلبيتين , ليتكرر في سورية ما حدث في ليبيا , وأن إيران لم ترضخ للضغوط والتهديدات الأمريكية , وأن هناك في الإدارة الأمريكية من أدرك في لحظة معينة أن الانجراف الى حرب عالمية نووية كبرى تدمّر الجميع من أجل عيون إسرائيل ليس خيار العقلاء , وإنما هو خيار المجانين الحاقدين على البشرية .‏

لعلنا نستطيع أن نفترض أيضاً بأن الحاقدين على البشرية أدركوا في لحظة ما أن التطورات الخطيرة في العالم من شأنها أن تجعل إسرائيل تطير من العالم . فبدون تقويض الجيش العربي السوري ومنظوماته الصاروخية , وبدون تقويض المقاومتين اللبنانية والفلسطينية , وبدون تحييد قدرات إيران العسكرية , لن يكون بوسع إسرائيل , لا أن تضرب وتهرب , ولا أن تضرب وتسلب , دون أن يترتب عليها أن تُضرب بعنف , وأن تدمّر بعنف . لذلك آثر اليهود الصهاينة كبح جماح « القوة العظمى الوحيدة « وتملق روسيا حتى لا تضيع إسرائيل بين أرجل المتحاربين إذا ما اشتعلت الحرب التي حلم بها كيسنجر . فاللحظة الملائمة بالنسبة لإسرائيل لم تتحقق كما كان يتمنى الصهاينة ويرغبون .‏

اليوم , وبعد فشل أميركا وأدواتها « غير الموثوقة « – وفق تعبير كيسنجر - خرج كيسنجر ليتحدث بصفته ممثل الحركة الصهيونية العالمية الباحث عن مصلحة الصهاينة أولاً وقبل كل شيء . وهذا ما جعل كيسنجر الذي هدّد روسيا قبل أربع سنوات بالسحق إذا هي حاولت رفع رأسها واعتراض المخطط الحربي الصهيوني , يقول بأن روسيا جزءٌ مهمٌ من النظام الدولي , وأنها تساعد بإيجاد الحلول لجميع أنواع الأزمات !! . والإشارة الى الأزمات هنا تشمل بالتأكيد الأزمة التي اصطنعت في أوكرانيا , والإرهاب الذي جرى تحريكه في القوقاز , وربما أيضاً الغارة الصهيونية الأخيرة على موقعين قرب دمشق , وإعلان كيري عن استعداد بعض الحكومات العربية لإقامة حلف مع إسرائيل ضد حماس وداعش , ويقيناً ضدّ سورية أيضاً وضدّ عرب آخرين وإيران .‏

هو إذن غزلٌ يهودي صهيوني مباغت , أو تملق يهودي صهيوني لم يكن يتوقعه أحد قبل سنوات , يعني أن هناك ما يريده اليهود الصهاينة من روسيا بالدبلوماسية أو التملق أو الاستعطاف بعد أن فشلت « القوة العظمى الوحيدة « التي راهنوا عليها مع أدواتها « غير الموثوقة « في تحقيق ما أرادوا منها تحقيقه بالقوة .‏

فما الذي يريده اليهود الصهاينة من روسيا في هذه اللحظة بالذات ؟ .‏

لنضع سفسطات كيسنجر ومحاولاته للخداع جانباً , ولنركز أنظارنا على ما هو أهم . وما هو أهم في نظر الصهاينة يتمثل في أمرين :‏

إذا كانت الحرب على سورية قد فشلت في تقويض قدرات الجيش السوري القتالية , فليحاولوا الحيلولة دون تعزيز هذه القدرات من خلال حصول سورية على أسلحة روسية نوعية أكثر فاعلية .‏

وإذا كانت فكرة شن الحرب على إيران قد فشلت , فليحاولوا بكل السبل عرقلة دخول إيران الى النادي النووي من زاوية التخصيب , لأن حصولها على إمكانية التخصيب يعني شل قدرة إسرائيل على استخدام الأسلحة النووية ضد العرب والمسلمين دون أن تستفز إيران وتجبرها على صنع سلاح نووي تردّ به على الصهاينة . فما يخشاه الصهاينة من ملف إيران النووي هو تحييد سلاح الصهاينة النووي ليفقد قدرته الردعية أو الفعلية .‏

لعل كيسنجر من خلال تملقه لروسيا يأمل في التأثير على قرارها بشأن تصدير أسلحة معينة الى كل من سورية وإيران , أو توفير خبرات تكنولوجية معينة لهما , الأمر الذي يزيد في قوتهما , ويقوّض بالتالي حلم إسرائيل في التوسع بين الفرات والنيل . وعلى أمل أن ينجح التملق اليهودي الصهيوني في عرقلة مثل هذا التطور تكون لعبة استثمار الإرهاب المتفاقم لتحقيق مزيد من الفوضى , وإعادة النظر في أساليب استثمار الشركاء غير الموثوقين , كفيلة بمواصلة الحرب التي كان من المنتظر أن تحقق أهدافها بسرعة ولكنها لم تنجح في ذلك . فمن المنطقي أن نتوقع من اليهود الصهاينة اللعب على كل الحبال التي يمكن اللعب عليها . وليس مستغرباً منهم أن يفعلوا ذلك , فتلك هي طبيعة نهجهم الذي اعتادوه عليه . فهم يريدون حرباً تحرق العالم شريطة ألا تمسّهم هم , ويريدون فوضى تغرق المنطقة شريطة ألا تغرق إسرائيل أيضاً .‏

من هم شركاء أميركا غير الموثوقين الذين يريد كيسنجر تحميلهم مسؤولية فشل الحرب الأمريكية على سوريا وكامل المنطقة ؟ .‏

إنهم حكام السعودية وقطر وتركيا بالدرجة الأولى .‏

وهم داعش وشقيقاتها الإرهابيات المفسدات بالدرجة الثانية .‏

وهم سَدَنةُ من ادّعوا كاذبين أنهم معارضة سورية من العملاء , والذين أسهموا في خداع مشغليهم بهدف الابتزاز المالي حين زعموا أنهم « يستطيعون أن يزرعوا في البحر المقاثي « إذا ما زوّدوهم بالمال والسلاح وقدّموا لهم التسهيلات . ولم نذكر إسرائيل هنا رغم دورها لأن كيسنجر لا يمكن أن يصنف إسرائيل بين الشركاء غير الموثوقين , كما أن الاستراتيجية الأمريكية تقوم أساساً على مخطط إيجاد الظروف الملائمة لتمكين إسرائيل من اجتياح المنطقة , ولكن بعد أن تكون المنطقة قد غرقت في الفوضى وهيمن عليها الإرهابيون , وبعد أن تكون الأرض قد مهدت لغزو صهيوني تحت ذريعة القضاء على الإرهاب بعد أن يكون الإرهاب قد قوّض القدرات الدفاعية التي تشكل خطراً على إسرائيل .‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية