وفي كلِّ مكان وزمان تقولُ الثقافةُ: إنَّ غايَتَها هي تكوينُ مثل هذا الإنسان...
وهذا الإنسانُ منذ الأزل، لم يتكوَّن, في الماضي كما في الحاضر، في العالم المتحضِّرِ، كما في العالم المتخلف. الحريَّةُ هي قضيَّة الإنسان على الأرض، وهي قضيَّةٌ يبدو أنها ستظلُّ مؤجَّلة. يبدو، بالتالي، أنَّها ستظلُّ المطلبَ الذي لن يتحقَّقْ.
لدينا قضيَّتان كبريان، كلتاهما تطرح نفسها بعنفٍ على السَّاحة الراهنة. وإذا كانت مسألة البحث في «علاقة المثقف العربي بالسُّلطة»، وفي الأزمات الناتجة عن هذه العلاقة المتوترة المركبة الغامضة، إذا كانت هذه المسألة شديدة التعقيد وخاضعة لأكثر من معيار، وبالتالي مثار جدلٍ وحوار طويلين حول مفهوم الثقافة بذاتها، ومفهوم الديمقراطية، فإذاً إذا اختلف المثقَّفون العرب حول هذه القضيَّة، فإنَّ ذلك يبدو طبيعياً جداً، فلكلٍّ شرفته التي يرى منها، قد تعلو هذه الشرفة عن الأخرى، أو تهبط عنها، وقد يحدث نتيجةً، أن تتسع الرؤية أو تضيق، وبين الاتساع والضيق تهتز الصورة، ويتأرجح وجه الواقع على المرآة, المرآة والصورة، الحلم والواقع، لا بدّ من تعارض، إنَّ السِّياسي يتعامل مع الواقع بلغة السياسة، أما المثقف فيتعامل بلغة الثقافة، وهما لغتان قليلاً ما تلتقيان، غير أن جوهر المسألة ليس في هذا التعارض، بل يكمن جوهر المسألة في أزمة الثقة بين اللغتين، وهي أزمة تاريخية يبدو أنَّ حلها مستحيل، وحول هذه الأزمة بالذات تمحورت بحوث وهموم ومناظرات المثقفين العرب على امتداد الفترات والمراحل الماضية وإلى ما شاء الواقع العربي، فهم يتفرعون فلا يلتقون، بعض في المثال ينأى، بعض يدنو من الواقع، الهدف واحد، ولكن ما الطريق إلى الهدف؟
والسؤال الأهم على أي ثقافة يرتكز العربي اليوم؟ ونحن واقعون في اختلاط المواقف والرؤى؟
ثمة غزوٌ واحد يقع على العرب، هو الغزو الإمبريالي الصهيوني، وبمقدار ما هو غزو سياسي، هو أيضاً غزو ثقافي. وهما وجهان لعملة واحدة، كلاهما يستهدف اقتلاع العربي من ذاته، واحد يستهدف اقتلاعه من الزمان، والآخر من المكان من الأرض من التاريخ, الواحد منهما عاجز عن الفعل دون الآخر، هكذا يأتي الغزو السياسي المسلح مصحوباً بغزو ثقافي أكثر عنفاً وجذرية، وينضرب على العربي الحصاران: حصار من الخارج وآخر من الداخل في آن، حصاره هو داخل ثقافته التي تتفتت إلى ثقافات تطفو على التيارات الانعزالية والإقليمية والمذهبية، وحصار على الأرض التي تنسحب من تحت قدميه شبراً بعد شبر. فعلى أي أرض يقف العربي اليوم، وعلى أي ثقافة يرتكز؟
إذا كانت للغزو أيديولوجية متكاملة، وله بالتالي، استراتيجية متكاملة هي الأخرى، إنها نظام متكامل، نظامٌ رأسه في البيت الأبيض، أما أطرافه فتتحرك متسللة داخل المكان العربي ذاته، هكذا تم ويتم اختراق الثقافة العربية، وهكذا تحدث التعددية التي تجعل من الثقافة العربية، التي ينبغي أن تكون واحدة متواشجة متكاملة، ثقافاتٍ متناقضة متعادية بل ومتصارعة على الساحة الواحدة.
- يبدو أن الطريق مازالت طويلة لأن يكون ثمة فكر عربي تنويري نهضوي تقدمي... والأمل معقود على بضعة نفر أنقياء أوفياء مخلصين يظهرون على فترة من عمر هذه الأمة وهذا الشعب، نفر مثقف أبيض هم فرسان الحقيقة المعقودة بنواصي خيلهم بذور الحضارة الأولى التي بزغت على وجه الأرض.