تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


العربية كاهنة الوعي العتيقة

ثقافة
الخميس 27-8-2009م
حسين عبد الكريم

قبل البحث عن كحل المفردات وبهجة الدلالات وغنائية المعاني واللغة العربية الحاضنة لزهوها وألق خبرها.

الجسور، القابض على برق مستقبله قبل رفّات أهداب الكلمات ألقي التحية الشعرية والممكن من حنين القلب على الصديق الحنون كابتسامة غيمة هاربة لتوها من سلالة المطر والبروق عثمان لبادي الذي يقلم أظافر معلوماته اللغوية، ومحفوظاته وذكرياته ويعيد «هندقة» رؤاه الإنسانية كحسناء تخشى أن يتطفل على حسنها غبار الاهمال..ويلم هذا المثقف المحب عطراً نبيلاً من وردات وجدانه لينشره في حواس الأصدقاء ويومياتهم..ولا يبخل المرة تلو المرة على أناقته الحياتية والثقافية أن يلتفت إليها ويجددها ويهديها لمساته الحداثوية..‏

وصديق آخر مهزوم عاطفياً أمام دهشة الموسيقا والكتابة و«صباه» المورقة في جميع حواكير روحه وحزنه ووقته، حتى لا يقدر على الفلات من أغصانها ونغمة حضورها كأفق عاشق يود التطاول والسفر خارج الجهات فيلاقي امتداد قامة الضوء الأعلى وأغصان بروق الصبا المورقة والحاملة بشاشة الجمال وتأويلات الحب، وجيه مينة الموسيقي والعاشق والمهزوم عاطفياً أمام سحر الموسيقا و«صباه» والمتهور إلى أقصى درجات الحنين والضائع وراء حائط محبرة الأيام كريشة في مهب الأماني والمعادلات الخاصة..هذا الصديق أهداني يوماً الخطوة الأولى إلى المؤرخ الموسيقي الكبير محمود عجان، وعند عتبة التحية الأولى فاجأنا الكبير العجان بمعزوفة..والرد عليها كان الإصغاء والامتلاء بنثريات روح النغمات ومشاغبات الأصابع العاشقة جداً بل التالفة من العشق للأوتار، حتى لم نجد في أي أنملة من أنامله إلا العزف ورائحة بوح تتنفسه الأصابع والتحيات وكلمات العمر والمدينة الملقاة على كتفي الزمان كشال عصور ونبوءات سفر وموج ورجوع ووداعات لا طائل منها إلا الوداعات بعد الانتهاء من المعزوفة..سألنا:‏

ماذا نسميها؟ وقبل السؤال كانت تمد أعناقها خيول النسمات والتواريخ والذكريات لا حاصة تبقى صامتة أمام مد وجزر الموسيقا..لم نحتج التأمل المسهب لأن في كل حركة وموسيقا وهدأة وتر تخبرك النغمات أنها الاحتفاء وصوت الحب وأنها صلاة نبع تمرس بالسقي والعذوبة وحواريات الجداول والمعجبين..ومرة تالية جمعنا والباحث اللغوي منير صبح سعيد الذي قدم منذ وقت قصير كتاباً في الأصول اللغوية تحت عنوان أو سؤال أو حيرة وشقاء لغوي..لماذا كانت العربية أم اللغات؟‏

السؤال قد يوحي بالعناد أو التعصب وحين الوصول إلى دفات الكتاب وحواريات المؤلف وأسلوبه يكتشف القارىء أن اللغة العربية كاهنة الوعي الأقدم وصاحبة حسن وتاج دلالات..ومهما أوغلنا السفر في الخيبات واليأس والانحطاط هي حارسة نبعها وسيدة عشقها وريادتها، وعند كل منعطف حاد تقدم رؤى جديدة وتعيد ترتيب قمتها أو ما يشير إلى القمة وحسن التأويل.‏

منير صبح سعيد المدرس أولاً والباحث ثانياً والمتأمل ما أمكنه التأمل والعاشق المنكسر أمام رياح الكلام كموجة نسيت هداية توقها قبل الغرام العاصف يقدم على فتنة المغامرة والتقصي ويركض ويتعثر بين أنحاء المعاني وحدود المقاطع والأصوات والمفردات لكنه يهتدي إلى فتنة مغامرته ويشرف على مراده من علو غير شاهق وغير خال.‏

بين عيني اللاذقية وكتاب الحقول والغيم علاقة عشق مؤبد وأسماء قرى وبلدات رماها الخصب وشكلت حروفها الأزمنة وتبدلات الفصول..كل قرية مفردة في دفتر عشق صاغته الأنهار والينابيع والمواسم وكناية كل ذاكرة لغة خصوبية أو تقديس طالع من صميم وعي الأرض باتجاه تفتحات براعم الفهم والزمن الحضاري..وهنا يكمن الفارق بين الحضاري والتدميري وبين الإنساني والوثني المتوحش.‏

عند كل اسم ومفردة ولغة يتوقف الباحث منير صبح سعيد ليقدم تأملاً لغوياً وبهجة دلالة ومحاولة استقصاء مثمر ورشيد وابحار وراء المعاني وسلالة الضوء والبدايات.‏

ولا يجد الصديق أو المتابع أو القارىء متسعاً لدى هذا الباحث للضجر أو الانحسار أو التردد والتردي، يبدأ ويواظب ويشد خصر المفردات ويرقص مع عناد المعاني حتى يصل إلى الحقيقة العميقة ويكشف عن هذه التأملات في بداية كتابه:‏

لقد تميز الإنسان القديم عن غيره من الكائنات الحية بعقله وحنجرته ولسانه وحين شرع يؤسس لغته بدأ بالأصوات البسيطة يقلد فيها أصوات الطبيعة مثل: (بو، إن، ما، إز، ور..إلخ) ثم شرع يركب كلمات مؤلفة من حرفين ساكنين مع صوت المد اللازم (عن، عان، عين، عون، عنا، عني..الخ) وهذا ما ندعوه كلمات المقطع الواحد.‏

لقد أحصيت هذه الأصوات الثنائية ذات المقطع الواحد في لغتنا معتمداً معجمي لسان العرب والمحيط فوجدتها تزيد قليلاً على ستمئة وستين صوتاً تتكون منها كل الكلمات في لغتنا وفي سواها إلى حد كبير..وما يثير الدهشة أن هذه الجذور المثناة أعطت دلالات خصوبية ولم يشذ عن ذلك جذر واحد في اللغة العربية.‏

وأقصد بالدلالات الخصوبية تلك المتعلقة بالحياة والرزق والسعادة والحماية .‏

ويطول الدرب وتتسع التأملات والاشارات بين الجغرافيا والأمكنة ونداءات الوعي والمعاني.‏

ولا يكف منير صبح سعيد عن مسعاه وأسئلته وتأملاته الخارجية على قانون الاعتيادية ويضيف ويضيء في جوانب من حياتنا ويومياتنا اللغوية وما يتفرع عنها ومنها وما يرجع إليها ليقدح في سماء الوعي وعتمة الإهمال شرارة مبشرة وعارية عن خجل الاتهامات..يقول ويبحث ويؤلف رؤى ويعيد صياغة رؤى..‏

جاوره في شغله الفكري أو سبقه الباحث الكبير د.أحمد داوود وكمال صليبي الذي اجتهد قبل الآخرين في صياغة هذه التأملات والإشارة إلى انبثاقات ضوء الوعي اللغوي ولم يشعر الباحث داوود بالملل بل إنه يزداد عند كل مؤلف جديد يقدمه ثقة وحباً وإضاءات تغني وجدان العارف وتعزز خبراته المعرفية.‏

ولعل الترادف في أوجاع لغوية مثل هذه الأوجاع لا يعني الانتقاص من تجربة على حساب تجربة سابقة أو تالية أو لصالحها والتراتب في الخبرات المعرفية ليس مدرسياً أو صفوفياً بل هو تأملياً بالدرجة الأولى أي بقدر ما تستطيع قوة التأملات أن تقدح الشرارة في جسد الثقافة والتراكم المعرفي واللغوي بقدر ما تتميز وتزداد تأثيراً وفعلاً عميقاً..وأكثر هذه الأبحاث والاجتهادات والتأملات تكلف الباحثين الشقاء الكثير والخبرة الجسورة.‏

وفن التحري والسؤال ليس عبئاً بقدر ما هو قيامة وعي وتجديد نضارة الوعي وسلاسة في القراءة الأكثر عمقاً.‏

من غير فن التأملات والاستفهامات والقراءات يبقى الوعي خاملاً ومهزوماً أمام يوميات الأسئلة وحرائق الأفكار التي لا تحل ألغازها غير شرارات الوعي وبروق القراءات التأملية وكم نحتاج هذه الشرارات؟؟‏

بهذه الاجتهادات والبروق التأملية يصير الإنسان صديق الأسئلة وحارسها وحامل اشراقاتها ومن دونها يعادي الحقائق ويتكىء إلى فشله الفكري وركود تجاربه وخبراته المعرفية.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية