تعلق الوعاء الكبير على ظهرها.. تهبط الدرجات الطينية اللزجة الضيقة بحذر، رغم اعتيادها عليها، إلا أن الحذر واجب في هذا الانحدار، يضيق الأفق شيئًا فشيئاً، ويقل الهواء النقي ،تزداد الرطوبة.. تعد الدرجات إلى أن تصل إلى الدرجة الثلاثين تغني، فيمتزج صوتها المتهدج مع الماء المالح، يرتجف ويبقى منه بعض أنين شجي الصدى.. يردد الأغنية القديمة ويختنق عندما تغني، تنسى المسافة وثقل الوعاء، يملأ صوتها العمق، وينافس صوت النهر القريب الأجش، كمارد مجنح في ليلة عاصفة، تهمس في سرها: النهر يصفق لي، تنظر إلى السماء فتراها بعيدة لها شكل دائرة، يغمر الماء الحذاء المطاطي، يصل إلى ركبتيها، تنحني وتغمر الوعاء في الماء المقدس، ترفعه ثم تثبته على ظهرها، يبقبق الماء تحت قدميها، تغوص في الطين تبذل الآن جهداً مضاعفاً كي تنتشلها من تحت هذا الوزن الثقيل. تصعد مرة أخرى الدرجات الطينية، وعند كل ارتفاع يهتز الدلو، وينسكب الماء من أعلى الكاحل وحتى الكعبين، في رحلة الصعود لا صوت سوى أنفاسها اللاهثة التي تتصاعد حتى تغمر هدير النهر (تعب من كثرة التصفيق) تهمس لنفسها.
لقد أمضت عمرها في هذا العمل، شهور متواصلة من الهبوط والصعود، والماء المالح قشر جلدها الغض فبدا متغضناً ،تاريخ مالح، ذراته علقت في شعور النساء وثيابهن وأحلامهن وتحت أظافرهن، في البداية كانت الحيوية والنشاط، تاجاً لها والتعب لا يعرف طريقاً لأقدامها.
تصعد الدرجة الأخيرة ،تتنفس الصعداء وتملأ صدرها بالهواء البارد النقي، وتمضي.. لا مجال للهو أو الراحة فالوقت يمضي، والموسم يقترب.
إيه يا ابنتي.. كنت أرضعك وأضعك على أسمال بالية هي كل ما أملك، وأغلق الباب الخشبي وأمضي في الطريق أبكي، وأدعو الله أن أراك بخير، أخرج في حريق الشمس، وفي البرد، كنت تملين رؤية الجدران الطينية والسقف الخشبي فتبدئين بالغناء، وأعود لأجدك غافية على الأرض الباردة، هكذا كانت أيامنا..
الماء ينسكب فوق الجدائل السوداء فيقطر الملح من أطرافها والدموع تنهمر من نجمتين معلقتين بالأفق، تدور في مدارات السماء الواسعة لتقطف لحظة دفء هاربة..
تصل الملاحة، يتدفق الماء المالح فيها، عملنا يحتاج إلى صبر، فالملح كنز لا نحصل عليه إلا بكد وانتظار، بعد ألف من المرات ستمتلئ الملّاحة وبعد مئة يوم ستتبخر مياهها، وبعدها سيحتاج الموسم إلى جمع وتعبئة بأكياس وبعدها سنرسلها للبيع في المدن المجاورة عندما نبيع الموسم نشتري به الحبوب ومؤونة الشتاء.. ثم نعود من جديد.
- الصبر يا ابنتي.. الصبر.
- لماذا لا نزرع الحبوب ونرتاح من هذا الشقاء؟
- الأرض المالحة، لا ينمو فيها القمح أو الشعير.. أو الشجر؟
- إذاً ماذا لو جربنا أن نزرع الملح، فربما أنبت شجراً؟
تضحك أمي (وضحكاتها.. التي علقت في ذاكرتي معدودة)، يردد الوادي صدى ضحكها.. إيه يا ابنتي، كم أنت قليلة الصبر. تحمل الوعاء، (يشرشر) الماء من أعلى كتفيها وتمضي، فلا وقت عندها، لكن الصبر أخذ ينفذ إليّ من مسامات جلدي مع الملح الذي كان ينساب فوقه الآن أعد الدرجات الطينية نحو البئر وأعد المرات التي صعدت فيها التل نحو الملّاحة فيبدو العدد كبيراً - الجو البارد والماء يزيدني برداً- السعال الآن أنهك صدرها، ومفاصلها متورمة، هي الآن تبكي على عمرها الذي مضى دون أن تراني وأنا أبكي على عمري الذي يمضي دون أن أراها، كلانا قد أضاع الآخر.
أرمي الوعاء نحو الملاحة، فتبتلعه إلى متى ستبقى هذه البركة تبتلع تعبي؟ إلى متى؟ أعود أدراجي وقد حفظت مكان كل ذرة تراب في الطريق وشكل كل حجر وتضاريس السماء فوقه، وتضاريس النهر القريب وهديره.
أمي توصيني بالصبر، وأن أغطي سأمي ومللي بالصبر! في بعض الأحيان نطلق الأسماء على غير مسمياتها الدقيقة! فلماذا أهدر عمري، ولما أهدر الوقت؟
تنزلق القدم المشققة فتسقط فوق الوعاء، يصطبغ الماء هذه المرة بلون آخر، تغسل الجرح فالماء المالح يدمل الجرح، ويشفيه، ثم تعود أدراجها للمرة الألف هي لا تنكر أنها أصبحت آلة متحركة تعرف الطريق بشكل فطري، وتعرف الهدف، إلا أن عظام ظهرها المقوسة بحاجة إلى عنايتها.
وحيدة تبقين يا أمي! أما مللت رؤية الجدران الطينية البائسة والسقف الخشبي؟!
تعود مسرعة نحوها، متناسية ألم الجرح النازف، تناديها أمها من الداخل، قبل وصولها بقليل، فسمعها مازال نابضاً بقوة:
أسرعي قبل نزول المطر، أسرعي يا ابنتي، تدخل، تحتضنها، تخبرها أمها: اتعلمين أن السماء قد فتحت أبوابها اليوم لك؟ رغم يقينها أن السماء لا تفتح لها باباً إلا للشقاء، تابعت حديث الأم بإصغاء:
جارنا طلبك اليوم لابنه والمهر قطعة أرض الآبار المالحة التي بجانب آبارنا، ما رأيك؟
تشعر بالعطش، تمد يدها نحو الجرة الفخارية وتشرب، ثم تشرب حتى ترتوي، تبدأ بالغناء تشاركها العجوز الغناء بصوت تقطعه نوبات سعال، ثم تفتح الصبية ذات الجدائل الباب، ترقص تحت المطر، حتى ينحل الملح المترسب في شعرها وثيابها وعلى جسدها، ترقص، وتبكي بدموع مالحة جداً، الآبار مهري.. وأنا من سينقلها كلها إلى الملاحات المرتفعة! أنا يا أمي، ترقص وترمي عنها ثياب العمل ،الظلام يحل، ولا صوت سوى صوت السعال والأنين.
تبدأ بعجن الطحين، تخبزه على موقد الحطب الغافي، وبعد أيام تقرع الطبول وتحتفل القرية بعرسها لأول مرة منذ سنين لم تذهب إلى الآبار، لقد اكتفت باستقبال الضيوف وإعداد الطعام والخبز معهم.
جلست تحدث نفسها وهي تنتظر العريس - لو أن الحلم يطول، وارتاح من عناء التعب المضني- كعاداتهم، تنتظر العروس قدوم العريس إلى دارها، وفي دار العريس لا يسمع إلا صوت البكاء والنواح يحمل على هودج مزخرف مودعاً أهلاً وأخاً عند الوصول وبعد اجتياز التضاريس القاسية بين المنزلين، تستقبله العروس بابتسامة خجولة، لم يغطها الكحل ولا الأصبغة، إذ كيف لوجه لم يذق إلا طعم الملح أن يبتسم ابتسامة عريضة.
هي لا تعرفه لكنه سمع أنها صاحبة أكبر موسم للملح في القرية، هي لا تعرفه لكنها تمنت لو عرفته.. عندما قال لها: كم أتمنى أن أزرع لك الملح، وأريحك من عناء الحصول عليه! كم أتمنى أن أقطف النجوم وأطحنها لك ملحاً لؤلؤياً ناعماً، وهطل المطر غزيراً ليلتها.
في اليوم التالي كانت الآبار قد امتلأت وكان من الواجب عليها النهوض مبكراً للذهاب نحو الآبار والملاحات تركته في فراشه غافياً، فمن المعيب أن يعمل الرجل عمل النساء في الملاحات، تفكر به وهي تعد الدرجات كعادتها.
تغمرها المياه المالحة حتى الخصر، تبدأ الغناء من جديد، تملأ الملاحة للمرة العاشرة بعد الألف، وفي طريق العودة وعلى غير عادة، رأت وردة صغيرة متفتحة جانب الطريق الصخري، تذكرت قول أمها: في الأرض المالحة لا تنمو الأزهار! عجباً، أيعقل أن تزرع الأزهار.. والملح!