تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


محمد سعيد رمضان البوطي (1929-2013م).. شهيد.. المحراب

ثقافـــــــة
السبت 23-3-2013
ديب علي حسن

من الماء إلى الماء، ومن الشرق إلى الغرب، ومن الشمال إلى الجنوب أشلاء أمة بقايا عرب حضارة تنتهك، دمار وخراب وبيد مَن.. ومَن.. ذهبت الأندلس وبكاها العرب المتناحرون الذين أضاعوها بدويلاتهم وإماراتهم وليالي لهوهم وانقسامهم، نعم بكوها كما تبكي النساء.. وبعدها ذهبت فلسطين أندلس القلب ونبض الشرايين.

إمارات مال نفط وغاز وسفرات لهو وصيد حسناوات وبزخ في عتمة ليالينا.. ما الذي يمكن أن نقوله اليوم ونحن نرى حرب القذارات تشن ضدنا، تحرق تفتك، تقتل؟.‏

علماء دين وأساتذة جامعيون، مهندسون، ضباط، جنود، إعلاميون، تقنيون مهرة، شهداء وطني سورية نخب بنت وأعطت ليتم اغتيالها منذ عامين وتحت شعارات ما أنزل الله بها من سلطان، شعارات الغدر والخيانة.. نعم: حرية، عدالة، مساواة..؟ مَن قال إن هذه ليست موجودة في سورية.. من الذي استثمرها ومدّ خناجر مسمومة وراءها.. أحقاً هي حرية أن تحرق آلاف المدارس وتدمر الجوامع، وتخرب المشافي، وتقطع الطرق، وتشتت الأوصال.. نعم هي حرية أن يأخذك عدوك بجهلك وغبائك، وبأدوات خبثه، وعهره، وبتنفيذ مؤامراته التي لم تتوقف يوماً ما أبداً، نعم لم تتوقف قد تختفي حيناً لكن ليس إلى غير رجعة بل لأن تجدد أدواتها وخططها.. إنهم يعملون وينفذون وبأدوات عربية ومحلية، وهم لايخجلون من ذلك أبداً، أهداف يريدون أن ينفذوها خدمة لمصالحهم ومآربهم، ألم يعلن أوباما من أرضنا المحتلة أن التحالف مع إسرائيل أبدي.. وماذا يعني ذلك غير أن تشتتنا سيكون أبدياً وأن حقوقنا ستكون في مهب الريح.. لأن أمراء الغاز والنفط مشغولون بالتآمر على بقايا أمجاد أمتنا؟!.‏

محزونون نعم، مفجوعون نعم، لكننا لسنا مكسورين، لسنا خائبين أبداً آلاف الشهداء ارتقوا إلى العلياء من أجل سورية الإنسان والعروبة والحضارة ونقاء الإسلام..‏

كيف لا ومن هنا كان نور المسيحية وفتوحات الإسلام وحضارته أتذكرون أم إنكم في غشاوة المال والهروب..؟‏

العروبة والإسلام جوهر واحد صهر في الشام وانسكب في بوتقة العطاء الإنساني..‏

كل هذا ألا ترونه، ألا تذكرونه أم إنه السبب الرئيسي لأن تعلنوا حربكم الكونية على سورية؟!.‏

الدين الحنيف، دين المحبة والرحمة، علماؤه الأجلاء الذين لم يدنسهم مال النفط ولم تغرهم موبقات السلاطين، هؤلاء العلماء هم الذين نراهم الآن في سورية منارة العرب والإسلام، علماء لاتأخذ هم بالحق لومة لائم، من على المنابر التي أضاءت وجهوا وعملوا، ونوروا، جمعوا وحدوا، آلفوا بين القلوب لم تكن منابر جوامعنا معهم إلا للحق وللرحمة..‏

وكم في القائمة من علماء وأئمة مساجد اغتيلوا لأنهم كانوا صوت الحق والفضيلة.. هل نذكرهم بذلك منذ ثمانينات القرن الماضي حين أشعل الأخوان المسلمون نار حقدهم على كل ماهو سوري.. أئمة مساجد ذبحوا حينئذٍ وهم يرفعون الآذان والأمر اليوم يعاد، الأدوات نفسها، الأهداف والغايات نفسها، تتغير الأدوات وتتجدد الأساليب، ولكن الأهداف ثابتة لليوم والغد، وهي معركة بين الخير والشر، بين الحق والباطل، بين النور والظلام..‏

واليوم يرتقي إلى العلياء الشهيد الدكتور سعيد رمضان البوطي: وهو من هو في العلم والمعرفة والعرفان..‏

شهيد المحراب‏

نعم شهيد المحراب كما قال سماحة العلامة أحمد بدرالدين حسون المفتي العام للجمهورية العربية السورية، وهو ليس أول صوت حق ينال الشهادة في المحراب فمن قبله سيدنا الخليفة العادل عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) وسيدنا الإمام علي كرّم الله وجهه، ولاشك أن كثيرين من بعدهم نالوا الشهادة من أجل الحق، واليوم يرتقي أستاذنا الدكتور سعيد رمضان البوطي إلى العلياء ليكون بين القديسين والصالحين والأنبياء..‏

مَن في سورية والوطن العربي والعالم الإسلامي لايعرف العلامة البوطي أو لم يتتلمذ على كتبه وفكره ومحاضراته، ويتابع خطبه ومنهجه النوراني في الدعوة والحوار..‏

تعود بي الذاكرة إلى أوائل الثمانينات إذ كنت طالباً جامعياً وكانت لدينا مادة «علوم القرآن» بكل شغف بكل حب بكل شوق كنا نقبل على المادة دراسة ومتابعة لأن الكتاب المقرر كان من تأليف المرحوم الدكتور سعيد رمضان البوطي ويحمل عنوان: من روائع القرآن «كتاب لايمكن لطالب علم ومعرفة واستزادة بمعرفة إعجاز القرآن إلا أن يكون هذا الكتاب طريقه إليه، كتاب جامعي لاينتهي بيوم وليلة، ولايركن على الرف بعد الانتهاء منه أبداً، فمازال الكتاب من أعز الكتب إليّ أعود إليه كل فترة.‏

أما المرة الأولى التي غمرني فيها بموقف لم ولن أنساه أبداً ما حييت ولم يكن يعرفني أبداً لكني كنت قد تعرضت لموقف ظالم آنئذِ حين كنت طالب دراسات عليا كلية التربية، جامعة دمشق ودخلت مكتب عميد الكلية حينها أستاذنا الدكتور محمود السيد أشكو إليه ماحدث معي وكان بزيارته الأستاذ العلامة البوطي، رويت لهما ماجرى وكان لهما موقف لم ولن أنساه أبداً، وقد رويته منذ أيام لأستاذتنا الدكتورة ملكة أبيض حين زرت شاعرنا الكبير سليمان العيسى عافاه الله، وكانت هي أيضاً أستاذي في الكلية.‏

والمرة الثانية التي تواصلت فيها مع أستاذنا كانت عام 2004م أثناء التوجه لألمانيا للمشاركة في معرض فرانكفورت للكتاب، وكان أستاذنا رحمه الله ضيفاً على المعرض لاقت محاضراته وحواراته إقبالاً كثيفاً من المتابعين ولاسيما الغربيين منهم، ودار حوار استمر لساعات حول قضايا إسلامية وفكرية، لمدة أربعة أيام وشيخنا البوطي بهمته وسعة علمه يدير حلقات علم ونقاش وتواصل..، وكم كانت فرحتنا كبيرة حين كنا نرى علامات السرور على متابعيه من الذين كانوا يرون الإسلام بصور أخرى مختلفة.‏

وأصدقكم القول بشعور ما إذ كنت أول مرة أجرب ركوب الطائرة لكني حين رأيته على متنها شعرت بطمأنينة مابعدها طمأنينة على عكس ماجرى معي في المرة الثالثة إذ كنا عائدين من عاصمة فقاعة الغاز وإذ بالطائرة تتأخر لساعات انتظاراً لأحدهم وهو.. كان الطقس شبه عاصف شعرت بنوع من القلق والخوف فخاطبني أحدهم: أتخاف ومعنا فلان.. فقلت لأنه معنا أخاف وأشعر بالقلق، وهو شعور لم أغيره أبداً، وقد كانت نتائجه مرعبة حينئذِ وهو الآن قد باع نفسه في سوق النفط والغاز وترك بلاداً حمته وآوته وأمنته.‏

وفي هذه الفترة العصيبة التي تمر بها سورية كان ملاذاً لنا نتابعه من خلال برنامجه الشهير: دراسات قرآنية، وننتظر بلهفة وشوق خطبة يوم الجمعة وكم كانت بلسماً لجراحنا ورؤى نورانية نقية وضاءة، الجمعة الماضية من على منبر رسول الله في المسجد الأموي الكبير كعادته صدح بالحق بلهفة الأب وسمو العالم ورحمة رجل الدين توجه بالنداء إلى التائهين في مجاهل الظلمة ومال الدنس الخليجي دعاهم إلى التوبة والعودة وإلقاء السلاح.. العلامة البوطي الذي رفض كل محاولات تقسيم سورية ورآها القلعة الشامخة وبشر بالنصر على الحرب الكونية التي يشنها الغرب الأفاك علينا.‏

أمس الجمعة، كان المسجد الأموي حزيناً حزيناً، حجارته محرابه، كل مافي الشام يشتاقك لم نسمع خطبتك من شاشة التلفزيون العربي السوري، لكن نداءك من عليائك، من جنان خلدك نسمع وصيتك سورية أمانة في أعناقكم.. افتديتها بدمي وبذلت لها علمي، واليوم هي أمانة فاحفظوا الأمانة صونوها؟!.‏

أيها الشهيد في محراب الإيمان لأنك رفضت أن تدنس بمال النفط وأن تكون أداة فتنة، كان اغتيالك.. أتذكر ماذا قال أمير الشعراء أحمد شوقي حين دنسّ الفرنسيون حرمة المسجد الأموي، وهاهم اليوم يعودون من جديد وبأدوات رخيصة يفعلون الأمر ذاته.. قال شاعرنا:‏

مررت بالمسجد المحزون أسأله‏

هل في المصلى أو المحراب مروان..‏

نعم نسأل المسجد المحزون هل في المصلى رمضان؟ في معارج العلا، بين القديسين والصالحين، علمك، فقهك، سيرتك، ميراثك مئات الآلاف من محبيك وتلاميذك.. أنت رسمت لهم درب أفق، فانعم في معراج العلا وأنت الشهيد الذي اغتاله الجهل كله.‏

d.hasan09@gmail.com

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية