ألا تدعو التطورات في الوقت الراهن الى الحديث عن ( الالتباس القاتل ) كان الرئيس الفرنسي الراحل ( شارل ديغول ) يقول : (اذهب الى الشرق المعقد بأفكار بسيطة ) الذي حدث أن الأميركيين الذين يعوزهم الخزين الفلسفي , كما الخزين التاريخي , أتو الى الشرق المعقد بأفكار معقدة , وبأسلحة معقدة , فهل نعود الى ما قاله ( ميغيل أنخيل موراتينوس ) وزير الخارجية الاسباني عندما كان مبعوثاً للاتحاد الأوروبي الى عملية السلام :(مشكلة الأميركيين أنهم لا يستطيعون التفريق بين سياسة القوة وقوة السياسة ). عملياً ( إنهم يمتلكون تلك التكنولوجيا التي لا تفهم العالم ) وكان الرئيس الفرنسي الراحل ( فرانسوا ميتران ) يقول دائماً :بضرورة (أن نعمل سوية لعقلنة أميركا ) هذا لأن دولة تمتلك تلك الإمكانات التكنولوجية الهائلة لا بد أن تصاب بجنون العظمة السياسية , والاستراتيجية بطبيعة الحال .
إنهم في العراق : خارطة فسيفسائية وقابلة للعطب, بل والانفجار , دون أن يدري أحد ما هي تداعيات هذا الانفجار , ولكن لنتذكر أنه عندما قاد ( عبد الكريم قاسم ) الانقلاب الشهير ضد الأسرة الهاشمية المالكية في 14تموز ,1958 سارع الرئيس ( دواييت ايزنهاور ) الى إرسال مشاة البحرية ( المارينز ) الى بيروت خشية أن يتحول الانقلاب في العراق الى انقلاب في الشرق الأوسط .
وهنا يقول ( آليوت برافر ) مسؤول الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي : ( إن الخطر كان آنذاك في الناصرية , الآن ثمة ما هو أخطر من الخطر.. الأصولية ..)استطرداً لا يريد رئيس الحكومة الإسرائيلية حلاً تفاوضياً يفضي الى الدولة الفلسطينية وهو الذي يعتقد أن من يقبل هذه الدولة بين اليهود , فهو كمن يضرم النار في ملابسه الداخلية .
إنه يلاحظ كيف أن الأميركيين احتلوا دولة ضخمة مثل العراق وعمدوا الى تفكيكها على النحو المعروف بحجة أنها تمتلك أسلحة دمار شامل , مع أنه لو صح ذلك , فإن هذه الأسلحة على بدائيتها تبدو كاريكاتيرية , أمام التكنولوجية الأميركية. في نظر ( شارون ) إن مخاطر قيام الدولة الفلسطينية على ( إسرائيل ) هي أكبر بكثير . ومستشاره ( زلمان شوفال ) يقول: إن حدود تلك الدولة قد تصل الى طنجة , وهو يقصد العمق الديمغرافي العربي الذي يعمل على تغذية هذه الدولة , هذا فضلاً عن وجود أكثر من مليون فلسطيني داخل ( إسرائيل )نفسها , وهؤلاء كما يتابع ( شوفال ) ( يمثلون قنبلة في ظهرنا لا بد أن تنفجر بمجرد أن تقوم الدولة ).
لا أحد يستطيع أن ينكر أنه مع الاحتلال الأميركي للعراق , بموقعه الجيو -استراتيجي شديد الحساسية , تغيرت الكثير من قواعد اللعبة في الشرق الأوسط . أيضاً تغيرت الكثير من الوقائع.
العقد الأول من القرن الحادي والعشرين هو في انطلاقته, مختلف كلياً عن العقد الأخير من القرن العشرين . وحين كان وزير الخارجية الأميركي ( جيمس بيكر ) يقوم بجولاته المكوكية في المنطقة من أجل التمهيد لعقد مؤتمر مدريد, وحيث يلتقي العرب والإسرائيليون معاً, وللمرة الأولى تحت سقف واحد , كانت هناك تعهدات واضحة بتنفيذ قراري مجلس اللأمن الدولي رقم 242 و ,338مع ما يمكن أن يسمى الجدولة الزمنية للعملية التفاوضية .ولكن لا بد هنا من الإشارة الى( الظلال الشكسبيرية ) في المؤتمر الذي عقد في خريف عام ,1991 فقد تبعثر العرب قبل انتهاء المؤتمر, وبدا أن هناك من عمل لذلك بدقة, فيما كان رئيس الحكومة الإسرائيلية ووزير الخارجية ( اسحق شامير ) يلعب بالكلمات . وبالمواقف, ليصرح بعد ذلك أنه كان يخطط لجعل المفاوضات تمتد الى عشر سنوات ( وها هي تمتد , متقطعة ودموية وضائقة , لثلاثة عشر عاماً ) .
هذا لم يمنع من حدوث مفاجآت الظل , ففي عام 1993خرج اتفاق أوسلو من بين الورود الاسكندنافية , كما قال في حينه وزير الخارجية النروجي : ( تيري رود لارسن ) ( الممثل الحالي لأمين عام الأمم المتحدة في ملف الشرق الأوسط ) , ليتبين بعد ذلك أن الكثير من الأشواك الاسكندنافية قد علقت به .سال دم كثير ولا يزال الى أن ولدت تلك التركيبة العجيبة التي تدعى ( خارطة الطريق ) . وفي عام 1994 وقع اتفاق وادي عربة .
وبدا أن العربة الدبلوماسية ماضية في سبيلها , حتى أن المفاوضات بين سورية وإسرائيل
لامست التسوية قبل أن يسقط ( رابين ) برصاصات ( ييغل عمير ) في تشرين ثاني ,1995 ورغم ذلك ظل ( البصيص الدبلوماسي ) حاضراً مع السياسة المتوازنة نسبياً التي انتهجها الرئيس ( بيل كلنتون ) الذي ظل حتى ( الرمق الأخير ) يراهن على المعجزة الدبلوماسية , وإن كانت وزيرة خارجيته ( مادلين أولبرايت ) قد تأخرت كثيراً في النظر الى الشرق الأوسط, فيما كان مستشاره للأمن القومي ( صموئيل بيرغر )يتعاطى أكاديمياً مع المنطقة , معتبراً أن العقد الأول من القرن الحادي والعشرين لا بد أن يشهد تغيراً في الوجوه , هذا لأن الشرق الأوسط قديم ولا يستطيع أن يتحمل الى مالا نهاية الوجوه القديمة , وكان هذا يعكس النظرة المجتزأة والشكلية الى الأمور . بفلسفة مختلفة , جاء الرئيس بوش الأبن الى البيت الأبيض ,ا لكثيرون تحدثوا عن العودة المظفرة لنجوم مدريد . لكن الذي حدث أنه استبعد الأكثر فهماً للعالم , وأتى بالأكثر فوقية في التعاطي مع العالم ( تشيني ) ,( رامسفيلد ) ( وولفوتيز ) (وريتشارد أرميتاج ) فيما كان على ( ريتشارد هاس ) أن يقول وهو يبتعد عن إدارة الرئيس بوش الإبن :( لم أسمع هناك سوى صرير الأسنان , وأنا لا أفهم كثيراً هذه اللغة ) .
ووسط هذه التغيرات العاصفة يذهب شارون بعيداً في التفسير , فالفلسطينيون يفترض ألا يجردوا من منازلهم فحسب , بل ومن ملابسهم أيضاً . هذا دون أن ننسى تلك المداعبة الكارثية بين ( شارون ) ومستشاره ( شوفال) الذي راح يحصي عدد القتلى العرب في حال استخدمت ( إسرائيل ) مخزونها النووي , وينقل ( يوئيل ماركوس ) أن ( شارون ) كان بادي الحبور . كان خياله يلعب بجثث ملايين العرب كما لو أنه يعبث بالدمى . هل يمكن إذاً , التعايش مع هذا الرجل ? السؤال المتأخر جداً, والمستحيل جداً : هل يمكن التفاوض مع هذا الرجل ? لا بل إن الدبلوماسي المخضرم (إدوارد دجيرجيان ) يذهب الى أبعد من ذلك : ( الى أين يقود شارون أميركا ?) ليشير الى أن الوهن العربي الراهن لا يبرر, أخلاقياً على الأقل , الصمت أو التجاهل أو اللامبالاة : ( ألا نقول له يفترض أن تغادر هذا المكان , وفي اعتقادي أنه الرجل المسؤول عن مأساتنا في الشرق الأوسط ).
(دجيرجيان ) يرى أن المنطقة ذاهبة فعلاً الى الحرب المفتوحة : ( لقد انهار كل شيء , والحديث عن خريطة الطريق يبدو كما لو أنه خطوة إضافية , ساذجة , في اتجاه تلك الكوميديا الدموية ( هذا ليسأل :) (أين هي نقطة التقاطع - أميركيا -بين غزة والعراق ? ) .
هذا ليلفت الانتباه الى أن المنطقة تشكل دورة دموية واحدة ( مع استبعاد إسرائيل بطبيعة الحال ) , و( يوسي ساريد ) يقول : (إن الإسرائيليين بدؤوا يلهثون ) .حتى القتلة يلهثون , فيما الفلسطينيون الذين دخلوا في اليأس الكبير كما في الغضب الكبير , يخوضون حرب استنزاف بعيدة المدى . المعلق ( زئيف شيف) هو نفسه يتساءل : ( الى متى تبقى محركات الدبابات تعمل ? ) حتى محركات الدبابات تتوقف في لحظة ما : ( هذا قتال ضد المجهول ) . يسأل : ( هل باستطاعة إسرائيل أن تخوض حرب المائة عام , الألف عام .). انظروا الى وجوه القتلة . لا حظو مساحة الانهيار ..!.