فالمشاهد لاطلالة الاوركسترا الوطنية على مسرح دار الاوبرا يشعر منذ اللحظة الاولى بنفحة شاعرية هادئة وساحرة ومنعشة تنشلنا ولو للحظات من قساوة الحياة في ازمنة العنف والقتل والوحشية والنكسات الكبرى.
البداية كانت مع بيتهوفن 1770-1827 في افتتاحية ( كوريولان) ذات الطابع الاحتفالي الصاخب او ذات الجمل الموسيقية الدينامية المتتابعة والمعبرة عن حالات وجدانية خاضعة باستمرار لذاكرة فنية ولخبرة طويلة في مجال العزف الاوركسترالي .
الانسجام بدا واضحا بين المايسترو الشاب ميساك باغبودريان وبين العازفين عبر التفاعلات العاطفية والانفعالية المشحونة بالايقاعات والهارمونيات والتشكيلات السمعية المتنوعة.
ومع انتهاء الوصلة الاولى من العزف الجماعي الاوركسترالي اطل علينا بسام نشواتي بعزفه الانفرادي على آلة الكمان ليؤدي كونشرتو ماكس بروخ ( 1838-1920) عبر تعانق اوتار كمانه والقوس فانسابت النغمات الرقيقة والعذبة لتعبر عن موهبة كبيرة اهلته لان يكون عازفا في الفرقة السيمفونية في مدينة سان انطونيو بولاية تكساس الى جانب مشاركاته في العزف مع العديد من الفرق العالمية في الولايات المتحدة واوربا واليابان .. بعد استراحة قصيرة عاد المايسترو ميساك وسط تصفيق الجمهور ليقود الاوركسترا من جديد موزعا الاشارات على المجموعة العازفة وهي تؤدي رائعة تشايكوفسكي ( باليه كسارة البندق) ثم انتقل منها مباشرة ليقود الفرقة في عزف افتتاحية منمنمة اعقبتها معزوفات متنوعة لست رقصات ( مارش رقصة الجنية الخيرة , رقصة روسية , رقصة عربية, رقصة صينية, رقصة الراعي ).
هكذا انسابت التنويعات الايقاعية الراقصة بأسلوب حواري داخلي غلب عليه الانفعال الذي ساعد على تكثيف الحركات الايقاعية المرتفعة بفضل التوزيع الاوركسترالي المرتكز في جوهره على هاجس التعبير عن الحركة الحية النابضة والمتباينة في الرقة والحيوية.
هذا التنويع الايقاعي الراقص اختتم بفالس الورود الذي سجل مرحلة انتقالية اخرى نحو مظاهر اطلاق الايقاعات الموسيقية الساكنة والمتحركة والتي تتفاوت ما بين الانفعالات الايقاعية وبين المناخات الشاعرية والرومانسية.
ثم قدمت اربع مقطوعات لبيزية 1838-1875 قطعة ريفية انترميتزو , مينوية , فاراندول جسدت ملامح التحول من الفن الريفي الى الفن المدني فالتأثيرات الريفية الحالمة والشاعرية لابد ان تترك اثرها الواضح على الموسيقا القادمة من عمق القرى والارياف على عكس الحياة المدنية التي تجسد بايقاعاتها الدينامية الصاخبة قلق الانسان في هندسة المساكن المعلبة . فالموسيقا الريفية تجسد المثال الرومانسي للعودة الى منابع النقاء والصفاء والهدوء المطلق .
وكان المايسترو ميساك قد ختم الامسية بكلمة وجه من خلالها التحية والشكر الى الدكتور محمود السيد وزير الثقافة على رعايته المتواصلة لنشاطات الفرقة السيمفونية الوطنية كما وجه كلمتي شكر الى الاستاذ اثيل حمدان مدير المعهد العالي للموسيقا والى الدكتور نبيل اللو مدير دار الاسد للثقافة والفنون ثم عزفت الفرقة السيمفونية النشيد الوطني السوري الشيء الذي حول الحضور الى كورس رافقت الفرقة بالتصفيق المستمر المشحون بالحماس الوطني الذي تأجج في هذه الامسية واغرق الفرقة بالمحبة والورود والتقدير الكامل .
هكذا تتجلى غايات واهداف دار الاسد للثقافة والفنون بتحقيق حلم قديم في الترويج للفن الاوركسترالي الذي يظهر كاشراقة امل ورغبة في الخلاص من مرحلة اهتزاز وخراب وتصدع ودمار وموت معلن يحاور العيون على كل الشاشات التلفزيونية الفضائية والارضية.