تتمثل في التشجيع على توسيع مساحات الاستثمار الخاصة والعامة والمشتركة, وهذا التداول يمثل حالة صحية, انطلاقا من كون التوظيفات المالية في القطاعات الاقتصادية المختلفة, هي البوابة الأرحب للوصول إلى تنمية حقيقية من شأنها رفع نسب النمو ومعالجة الأمراض الاقتصادية التي تبدأ من تضخم البطالة وليس انتهاء بحالة الركود الاقتصادي التي يشهدها اقتصادنا منذ نحو عقد من الزمن.
لن نتحدث طويلا حول بديهيات تندرج ضمن إطار ألف باء العلوم الاقتصادية, وإنماسنسأل وبكثير من الشفافية والصراحة:
هل الدعوات المتواترة لتشجيع الاستثمار الخاص استطاعت الوصول إلى الحدود الدنيا من الطموحات?!..
وهل بعض التشريعات والقوانين التي تشكل قاعدةأساسية لاستقطاب الرساميل ورجال الأعمال مازالت بتفاصيلها الراهنة قادرة على دفع الرساميل المهاجرة إلى العودة لموطنها الأصلي?!..
والأهم: هل المشكلات التي تواجه استثمارات المؤسسات والشركات الحكومية تنحصر في غياب رأس المال وعدم توفره?!
ندرك سلفا أن هذه الأسئلة وسواها قد تكون موضع دراسة اقتصادية متكاملة أكثر منها مقالة صحفية عابرة, ومع ذلك يمكن الإجابة وبشيء من التكثيف اللغوي بهدف ملامسة بعض معوقات الاستثمار, انطلاقا من متابعات يومية لأداء الاقتصاد غير الوطني, ففي حال العودة إلى السؤال الأول: فإنه يمكن القول وبلا تردد, إن واقع حال الاستثمار مازال غير مرضٍ,ويستلزم إعادة دراسة وتقويم لتجربة السنوات الأخيرة, إلى مناقشة التشريعات والقوانين ذات الطابع الاقتصادي على ضوء التوجهات المعلنة التي تشير إلى أن عربة الاقتصاد تتجه في محطاتها المقبلة نحو ما يسمى باقتصاد السوق الذي لايمت بصلة لاقتصاد الأوامر الذي تديرذمته المؤسسات الحكومية..
فمنذ عام 1991 حيث تم صوغ قانون الاستثمار رقم (10), وثمة الكثير من التباهي على أن هناك مئات المشروعات الاستثمارية الخاصة التي تم تشميلها على هذا القانون, ومنذ ذلك التاريخ وإلى اليوم هناك نحو عقد ونصف من الزمن, بمعنى أن ثمة الكثير من التبدلات والتحولات التي تستدعي إحداث تغييرات على هذه القوانين انطلاقا من محاكاة آليات التعاطي الإقليمي والدولي لتحولات الأداء الاقتصادي.
فقبل أكثر من عقد من الزمن لم تكن اتفاقات منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى قد رأت النور, وقبل ذلك التاريخ أيضا لم تكن تداعيات العولمة الاقتصادية تخيم على سماء المعمورة,واتفاقات منظمة التجارة العالمية التي بدأ نفاذ مفعولها منذ مطلع العام الحالي لم تكن ربما في الوارد, هذا إلى جانب اتفاقات الشراكة المرتقبة مع أوروبا والاتفاقات التجارية الثنائية التي تربط بلدنا مع سواها من بلدان العالم.. الاتيان على كل هذه التبدلات والمحطات, هو بهدف التذكير, إن التوازن بين التحولات والتشريعات والقوانين كان يمضي بخطوات بطيئة جدا, وفي جانب آخر من المعادلة, ليس المطلوب فقط سن عشرات القوانين والتشريعات والتباهي في بعض مضامينها, وإنما لابد من إعادة النظر بتشريعات جوهرية تشكل الحامل الفعلي لاستقطاب المستثمرين وأصحاب رؤوس الأموال. فالقانون المذكور رقم (10) ربما كان قد حقق بعض أهدافه انطلاقا من طبيعة وشروط مرحلة اقتصادية محددة, لكن مع تبدل هذه الشروط لابد من قوانين أخرى للاستفادة من رساميل عامة وخاصة متوفرة وبأرقام فلكية ومازالت بعيدة عن كل ما يعنيه مفهوم الاستثمار أو توظيف الأموال.
فحقيقة ليس هناك ما يسوغ هذا التباطؤ الشديد في الإعلان عن قانون جديد للاستثمار, فمنذ سنوات طويلة هناك من يتحدث, أن لجنة في مجلس الشعب تعكف على دراسة هذا القانون ومع ذلك مازالت الأسباب مجهولة فيما إذا كان سيصدر أم لا, حتى أن هناك من يرى من الاقتصاديين والمهتمين, أنه في حال حضور هذا القانون كمسودة, فلماذا لاينشر في المنابر الإعلامية كي يأخذ نصيبه من الجدل والنقاش بهدف تجنب بعض الهنات أو الثغرات التي لاتتماشى مع طموحات المستثمرين أو مع القوانين المثيلة في البلدان العربية والأجنبية?..
وواقع الحال ينسحب أيضا على قانون التجارة الذي تم صوغه منذ نحو نصف قرن من الزمن ولم يطرأ عليه أيضا تعديلات جوهرية..
وحقيقة -نحن وغيرنا- نستغرب كيف يمكن التشجيع على رفع وتائر الاستثمار في وقت نشجع فيه على المضي في طريق اقتصاد السوق.. وأيضا كيف نشجع وقانون التجارة بات من القوانين التي لاتليق إلا بمتاحف التاريخ?!
هذا إلى جانب تشريعات أخرى تتعلق بالتجارة الخارجية ومازالت بدورها متخلفة عن ركب القوانين الدولية, مع أن هذه الأخيرة تشكل البوابة الوحيدة لرفع وتائر التصدير وإمكان جعل المنتجات والسلع المحلية قادرة على منافسة مثيلاتها في الأسواق العالمية.
فهناك ثمة ضرورة لإعادة النظر بالرسوم والضرائب المفروضة على استيراد المواد الأولية ونصف المصنعة الداخلة في المنتج المعد للتصدير والتي تصل إلى حدود (10) بالمئة من قيمتها الحقيقية,.. هذا إلى جانب ضرائب أخرى تندرج ضمن ضرائب الدخل والأرباح وسواها من التشريعات الضريبية التي لم تعد قائمة في ظل انفتاح الأسواق وتحرر التجارة الخارجية الدولية من الرسوم والضرائب, فالسعي إلى تعديل هذه التشريعات سوف يسهم ليس فقط في جذب الاستثمارات وإنما أيضا في تحسين سوية المنتج, فهناك حقيقة قديمة متجددة وسبق إثارتها غير مرة في مناسبات مختلفة, على أن بعض القوانين والتشريعات كانت ومازالت بمنزلة عقبات تحول دون تحسين ميزان الصادرات والارتقاء بجودة السلع والمنتجات.., طبعا لايفوتنا التذكير في هذا السياق, أن بعض جوانب المسؤولية في تراجع الأداء الصناعي, تقع على بعض الصناعيين والمنتجين في القطاع الخاص, وتحديدا من الذين حاولوا وضمن مرحلة اقتصادية محددة من توظيف سياسة الحماية التي أخذت بها الحكومة, وهذا التوظيف قام على أساس التحكم بالأسواق وطرح منتجات غير مرضية لجهة الجودة وذات أسعار مرتفعة, والمستهلك العادي كان يضطر للانحناء لهذه السياسة والإقبال على شراء السلع انطلاقا من غياب البدائل والخيارات.
بمعنى أو بآخر, فإن الاستثمار الخاص في بلدنا مازال خجولا وليس مرضيا, وباعتباري الشخصي أن (باروميتر) قياس أداء التوظيفات الاستثمارية, لم يكن في يوم من الأيام مناط في التباهي بتشميل مئات المشروعات الاستثمارية مثلما هو واقع الحال مع القانون رقم (10).
وإنما القياس الفعلي هو في نسب النمو المحققة في نهاية كل عام.
هذا إلى جانب امتصاص الفائض من طوابير العاطلين عن العمل, إلى جانب انحسار الركود الاقتصادي والذي يزداد اتساعا بدل الانحسار, مثل هذه العناوين هي وحدها القادرة على إقناع الرأي العام, أن ثمة عوامل ملموسة تشير إلى أن هناك تشريعات بدأت تلبي حاجات المستثمرين وبدأت تنعكس إيجابا على أداء الاقتصاد الوطني.
وفي الانتقال من الاستثمار الخاص ومعوقاته إلى الاستثمار العام, فإن هذا الأخير لم يكن أفضل حالا, وللدلالة على مثل هذا الكلام يكفي الإشارة إلى أن الانفاق الاستثماري في موازنة العام الحالي كان ومن ناحية الأرقام قد فاق بند الانفاق الجاري, والأمر المعروف أن أي محاولة لزيادة نسب النمو وتوفير المزيد من فرص العمل مرهون أولا وأخيرا بتفعيل الأداء الاستثماري, وعلى الرغم من أن هناك من حاول تسويغ مثل هذه المعادلة وجعلها في صالح القائمين على صوغ الموازنة العامة للدولة, لكنها ومع ذلك لم تكن تلك المعادلة مقنعة, وبمناسبة الحديث عن واقع الاستثمار العام, فإنه من المفيد السؤال: ماذا عن مصير القرار الحكومي الذي سمح منذ عام 2003 لمؤسسة التأمينات الاجتماعية باستثمار نسبة (50) بالمئة من فائض أموالها التي لاعمل لها?
حقيقة أن الإجابة على هذا السؤال تستلزم مقالة صحفية مستقلة, ذلك أن مضي نحو ثلاث سنوات على تجربة غير مسبوقة في بعض المؤسسات العامة البعيدة عن التوظيف الاستثماري.. مثل هذه التجربة تستلزم التوقف مطولا, خاصة وأن هذه المؤسسة تقوم بجباية المليارات من الليرات سنويا وتبقى هذه الأموال حبيسة الأدراج, وهو ما يعني أن قضية الاستثمار العام ليست مشكلة نقص سيولة, وإنما هي مشكلة في غياب السياسات الفعلية القادرة على الاستثمار.