ومدججة بتوق جارف لأكتشف معالم الطريق وأنا في قطار، الطريق نفسه الذي نقطعه بأي واسطة نقل أخرى.. وربما كان السبب الرئيس لذلك هو رغبتي باستكشاف ذلك الشعور حينما أستقله، شعور من يوائم بين شريط الحياة وحالة استقلال القطار ومحطاته المتتالية لتكون مثالاً صارخاً عن الحياة ومحطاتها المختلفة..
شعور من بات يشعر بقطار العمر في حياة الأوطان والناس تحديداً بعد سنوات الحرب هذه.. والتي باتت تشكل ذاكرة لعقد كامل من الأبناء ممن شهدوها.. ربما هو حنيني لسماع صفاراته وأنا التي تخيلتها مما قرأته عنها في الكتب المدرسية أو أفلام الكرتون البريئة أو مما شاهدته من لقطات سينمائية طالما شحنتني بمشاعر غريبة دفعتني لأجرب هذا الكائن الجميل، أتحسسه أستشعر روحه وهو يقضي شطر ساعاته ذاهباً آيباً على السكة نفسها مودَعاً بآلاف البشر ومئات الحكايات.. بينما أصوات عجلاته وصريرها على السكة الحديد هي ما يوحي بعمله الدؤوب وانشغاله الدائم وجهده المضني على طي المسافات والجغرافيا والثقافات والحيوات والأزمان مكرساً فكرة الاجتهاد الدائم في البحث والسعي والمغامرة، وفكرته الأبدية الأوضح التي يكرسها الوصول والرحيل.. دموع الفرح ودموع الحزن.. الأمل واليأس المفارقة والمقاربة.. فيكون لي محرضاً على ما أختزنه ولا أستطيع إخراجه من وعيي الباطن إلا بالسفر بالقطار..
لعل هاجس السرعة، الذي يحايثه اللهاث، كما التنوع البشري في أداة نقلٍ تَلتهِمُ المسافات، هو الذي أقنعني، كما أقنع أغاثا كريستي، بأن تتخذ من القطار عنواناً وأحداثاً لروايتها «جريمة في قطار الشرق السريع»، أو لعل هذا الشيء يساعدني في إعادة صوغ أفكاري لأعيد صياغة قدري، تماماً كما لو كان القطار يبدّل المسافات والمصائر معًا؟ أليس القطار كجسم حديدي فاعل يتجسّد، أكثر وضوحاً، في رواية تولستوي الشهيرة «أنّا كارنينا»، حيث الزوجة التي وقعت في عشق لا يراهن عليه، تنتهي إلى موت تراجيدي تحت عجلات القطار؟ وإذا كان في القطار ما «يبدّد» المسافات، بلغة طليقة، كان مفترضاً، اعتماداً على التبادل اللامتكافئ، أن يغدو «موضوعًا أليفاً» في البلدان التي فاتتها الثورة الصناعية، شأن العالم العربي.
ولهذا احتل القطار مكانة في الرواية العربية، والشعر العربي الحديث بل ومختلف الفنون، فللقطار دوره في رواية عبد الرحمن منيف «الأشجار واغتيال مرزوق»، حيث المثقف المغترب يلتقي، في القطار، آخرَ عاثِرَ الحظِّ يسرد له مسار حياة عامرة بالمشقة. وللقطار هنا دلالتان: يحقق لقاء بين غريبين، فيتبادلان الكلام والحكايات، وهو الإطار المعبّر عن العارض والمؤقت والصدفة «الحزينة - الطيبة»، فالغريب يجد ملاذاً في غريب آخر، يأنس إليه ويبوح له بأسراره على غير توقع؟ ولربما كان القطار حكَّاء صامتاً، يروي بالإشارة والحركة، أو سارداً يعبِّر عن سيولة الأزمنة.
وإذ جعل جمال الغيطاني، في عمله «دنا فتدلى»، من القطارات مجازاً لسيرة ذاتية متأسية، تميل إلى التصوف: «تمضي القطارات هادرة، مختالة، لكنها على القضبان وحيدة، في الخلاء منطلقة بمفردها مهما ثقلت الحمول لا تدوم الصلة إلا مقدار لقاء العجلات بالقضبان عند اكتمال السرعة» فالتبس القطار بشخصية إنسان يميل إلى الكآبة، له زهوه واختياله، ووحدته الباردة.
ولعل «نزف الزمن»، الذي استغرق الغيطاني، في روايات متعددة، هو الذي جعله يرى القطار في «محطاته» المتواترة.. القطار أقحم مشاهد جديدة فى مخيلة الإنسان والأدباء بشكل خاص؛ حكايات بشر يحلمون بالوصول، حكايات من أجل التسلية وتزجية وقت السفر بسهولة، حكايات من أجل معرفة المزيد عن البلد المرتقب الوصول إليه، مشاهد لحقول وبيوت تتتابع من وراء النافذة وكأنك أمام شاشة سينما وحلم الوصول يراودك فى كل لحظة؛ ليأتي حلم السفر والمغادرة من جديد.. انتبهت من استغراقي، كانت الشمس تميل إلى الغروب، بينما تتردد في ذاكرتي أغنية «يا وابور» أما روحي فأخذت تشرق بوعي جديد للحياة، مع صافرة الوصول إلى المحطة الأخيرة من غروب ذلك اليوم..