وتعد هذه العملية البرية الأولى التي تنفذها القوات التركية في الأراضي السورية منذ عام 2011 بذريعة محاربة تنظيم داعش، إلا أن الواقع يؤكد بأن الهدف الرئيس لها هو القضاء على القوة السياسية والعسكرية للسوريين الأكراد الذين يشكلون تهديدا لها.
لقد وصلت الحرب القائمة على الأراضي السورية إلى نقطة حرجة، فإما أنها ستنحسر أو أنها ستسير نحو المزيد من العنف. ولمناقشة ما يجري في هذا البلد، اجتمع وزير الخارجية الأميركي جون كيري مع نظيره الروسي سيرغي لافروف في جنيف بهدف التوصل إلى اتفاق تعاون عسكري وسياسي. وعندما سئل وزير الخارجية الروسي عن العقبة الرئيسة أمام وقف إطلاق النار رد قائلا: «لا أرغب في تعكير أجواء المفاوضات.» واقترحت موسكو وقف إطلاق النار مدة 48 ساعة في حلب».
تبدي كافة الأطراف تمسكا بمواقفها وفقا لما تتوقعه من حدوث تحول نحو المزيد من الحروب والعنف أو نحو سلام أكبر. لكن ما يجدر بالذكر أنه بينما كان كيري يلتقي بلافروف في جنيف كانت سيارات الإسعاف والحافلات والشاحنات تتجمع لتقف خارج مدينة داريا القريبة من العاصمة دمشق بغية تنفيذ الاتفاق المبرم بين المسلحين والجيش السوري الذي ينص على أن يخلي المسلحون والمدنيون البالغ عددهم 4000 المناطق التي يسيطر عليها المتمردون.
يعتبر التدخل التركي من أكبر التغيرات الحاصلة في المشهد السياسي والعسكري، على الرغم من أن مدى هذا التدخل مازال مبهما، حيث يدعي الأتراك بأن الدفاع هو الهدف الرئيس لهم، لكن الواقع يؤكد أن الهدف هو السيطرة على المنطقة الواقعة بين جرابلس والجيب الكردي لعفرين التي تبعد 70 ميلا وذلك عبر استخدام وكلاء من العرب والتركمان الذين انضووا تحت قيادة القوات المسلحة التركية، حيث يمكن لتركيا بعدها بناء قاعدة لمناهضة سورية من جهة ومناهضة الأكراد شمال حلب من جهة أخرى مما يجعلها اللاعب الرئيس في المنطقة. ويبدو بأن الهدف الأول قد تحقق نتيجة الدعم الأميركي الواضح والتسامح الروسي الأمر الذي يوحي بأن التصرف التركي كان متوقعا من سائر الأطراف المعنية.
إن تدخلا تركيا بشكل أكبر (على الرغم من كونه مغريا بالنسبة للبعض في أنقرة) قد يفضي إلى تورط تركي في الحرب السورية-العراقية. وربما تكون تركيا قادرة على منع الأكراد من تمديد حكمهم غرب الفرات، ولكن المعضلة الأكثر خطورة تكمن في مهاجمة الأكراد في المناطق التي استحوذوا عليها بين نهري الفرات ودجلة منذ عام 2012. .
يبدو أن الذين يخوضون الحروب في الشرق الأوسط يتمتعون بالكثير من الثقة بأنفسهم، حيث لوحظ بأن الإسرائيليين الذين غزوا لبنان عام 1982 قد حاولوا فرض أنفسهم بالسيطرة عليه. وكذلك فعل الأميركيون عندما أسقطوا صدام حسين عام 2003 وحاولوا الهيمنة على العراق برمته. وكذلك الأمر بالنسبة للأكراد السوريين الذين اعتمدوا على الكفاءة العسكرية لحوالي 50000 مقاتل وقوة النيران المدمرة الهائلة التي قدمتها لهم القوات الجوية الأميركية بغية السيطرة على الكثير من المناطق شمال شرق سورية خلال الثمانية عشرة شهرا الماضية. ونظرا للروح المعنوية التي سادت لديهم بعد مجابهتهم لداعش على مدى أربع سنوات ونصف من حصار كوباني الذي انتهى في مطلع عام 2015 تمكن حزب الاتحاد الديمقراطي وحزب العمال الكردستاني في تركيا وقواتهم شبه العسكرية الهائلة ووحدات حماية الشعب من هزيمة داعش في العديد من المعارك.
لكن تلك القوات ذهبت بعيدا حيث تجاوزت الخطوط التي يسمح لهم بها حلفاؤهم الروس والأميركيون لوقف التدخل التركي. ولا ريب بأن سيطرة قوات سورية الديمقراطية على منبج بعد إخراج داعش منها قد قاد إلى تقدم أكبر باتجاه جرابلس في الشمال وقيام داعش بالسيطرة على الباب في الشرق، الأمر الذي حدا بتركيا إلى التدخل العسكري الذي كان قيد الدراسة والتحسب منذ أكثر من عام.
ولقد واجهت تركيا الكثير من الكوارث في سورية، حيث فشلت في إسقاط سورية وفتحت الباب أمام حزب العمال الكردستاني، الذي بقي في حالة حرب مع الدولة التركية منذ 32 عاما، لإقامة دولة مسلحة تسليحا جيدا أصبحت تشكل ملاذا أمنا في شمال سورية استطاع حزب العمال الكردستاني من خلالها متابعة حرب العصابات في تركيا. وفضلا عن ذلك فإن داعش التي طالما تجاهلت المخابرات التركية تصرفاتها وقدمت لها المساندة السرية عمدت في الوقت الراهن إلى تنفيذ تفجيرات إرهابية في تركيا.
إن قيام الأكراد السوريين بتاجيج حرب العصابات داخل تركيا هو حقيقة، والتدخل العسكري التركي الذي كان أمراً محتملا منذ زمن طويل أصبح واقعا ملموسا. ولم يكن تأخره إلا نتيجة الدعم الأميركي لوحدات حماية الشعب في سورية، وقد تدهورت العلاقات الأميركية-التركية نتيجة إحجام تركيا عن إغلاق الحدود السورية معها في وجه عناصر داعش وغيرهم من الجهاديين وإعراب الولايات المتحدة عن ارتياحها لما تقوم به وحدات حماية الشعب من محاربة داعش، ومن المسلم به بأن روسيا (التي عمدت الطائرات التركية إلى إسقاط إحدى طائراتها في 24 تشرين الثاني 2015) كانت تعارض التدخل التركي بحدة.
لقد باتت الحرب المتعددة الأطراف في سورية أكثر تعقيدا. فالأكراد السوريون والعراقيون حققوا تقدما على الأرض لم يكن يتسنى لهم تحقيق ذلك دون دعم دولي ولاسيما الدعم الأميركي. وفي الوقت الراهن تحارب وحدات الشعب الكردي في مناطق يعيش بها خليط من السكان العرب والأكراد الذين يعدون أقلية حيث استغلوا الفرصة خلال سيطرة داعش على الموصل عام 2014 للهيمنة على أراضٍ متنازع عليها منذ فترة طويلة مع الحكومة العراقية في بغداد. ويعلم القادة الأكراد بأن يوم الحساب آت لا محالة لذلك أخذوا يتفكرون في كيفية الحفاظ على مكاسبهم في حال شعور حلفائهم بالأمان وعدم التهديد من داعش وانتفاء الحاجة لدعمهم.
لاريب أن جميع الفصائل في سورية وبدرجات متفاوتة يعتبرون وكلاء لقوى أجنبية، ولن يتسنى لهم الاستمرار في القتال دون تلقيهم الدعم منها، وتعلم هذه الفصائل بأن تلك الجهات الأجنبية أنها تمولهم خدمة لمصالحها. لكن المتنافسين السوريين لا يمكن لهم الاستمرار دون مساعدة من حلفائهم الأجانب، وعلى الرغم من كون الجهاديين يهيمنون على المعارضة المسلحة في سورية لكن من المتعذر عليهم الاستمرار بالقتال دون تلقي الدعم من تركيا والسعودية وقطر.
عندما يلتقي لافروف وكيري في جنيف تأخذ كافة الأطراف المتصارعة في سورية بالتساؤل عن ماهية الاتفاقات التي يمكن أن تبرم من خلف ظهورهم من أمثال السماح بالتدخل التركي أو أمور مجهولة أخرى.