بل إن المواجهة قاب قوسين أوأدنى، وقد روع هذا المناخ من يقظة السلاح الكاتب في هآرتس جدعون ليفي الذي لجأ إلى السخرية اللاذعة مندداً بعمى المؤسستين العسكرية والإعلامية اللتين ترفضان طرح السؤال الوحيد الجدير بأن يطرح: لماذا؟.
كلما مرّت بضعة أسابيع لابد من زرع الخوف، وكلما مرت عدة أشهر يجب نشر التهديدات الصريحة، وكل سنتين أوأقل يجب خوض حرب صغيرة.
ويعد الجيش ووسائل الإعلام في تعاون وثيق بينهما بجولة جديدة من القتال، ومن ثمّ يمكن التخلص من تحمل المسؤولية ولو جزئياً مما ورد في تقرير غولدستون، ويؤدى الدور الذي نبرع في أدائه وهو أننا الضحية مع الشعور بضرورة رصّ الصف بمواجهة خطر خارجي كبير مفترض في الأفق.
سيكون الجيش الإسرائيلي عندئذ في أعلى درجات التأهب، فيتطهر من شكوكه وإخفاقاته، وهذا يمكن أن يترجم أيضاً بميزانية باهظة تعيد هيبة كل الجنرالات والمعلقين العسكريين وتعيد مجدهم ونفوذهم، كما يولد نسبة أعلى من استقطابات المستمعين والمشاهدين، ويتيح بيع الصحف التي تعتمد الإثارة، وتزدهر أنظمة الأسلحة المتقدمة في عيون الزبائن، فماذ نأمل أحسن من ذلك؟!.
هذه هي آخر صيحة تحذير: وكالة ناسا في فلسطين! المعادلة لنظام رافال الدفاعي في غزة!.
حماس تطلق صاروخاً مداه 60 كيلو متراً! يسارع البعض إلى زعم أنه يجب أن يكون إيرانياً فيقولون: إنه إيراني الصنع، وهذاماقاله مدير الاستخبارات العسكرية، ورئيس مجلس الوزراء نتنياهو الذي أدلى بدلوه على الفور حول نظام الصاروخ، والإعلام شرع بدوره في رقصة الحرب المفضلة فكانت العناوين: «ثلاثة ملايين مواطن في مرمى النار» ، «ضواحي تل أبيب في خطر» «سلاح القيامة» بعض العناوين كانت مريعة وقد ترافقت مع خرائط ليست أقل ترويعاً.
وهتفت المعلقة العسكرية في التلفزيون بسرعة: «إنها أبعاد جديدة يجب أن يواجهها الجيش الإسرائيلي» وهذه ليست قضية بسيطة، إنها أبعاد جديدة حقاً، و«علينا أن نعرف أن ضحايا كثراً سيسقطون على الجبهة الداخلية»!.
مرة أخرى نواجه أمراً بشعاً ورياءً! فقطاع ضيق من الأرض في حالة حصار وغارق في البؤس والخراب، ومنظمة شبه عسكرية لديها ترسانة يرثى لها، تجعل الخزي يلحق بمعسكر تدريب تابع لقاعدة في الجيش، وقد أثبتت هي وسلاحها مقدرة ضئيلة خلال الحرب الأخيرة.
ولكن نشطاء الجيش والإعلام صوروها لنا على أنها قوى عظمى، وهذه هي الطريقة التي رسمت لسيناريو الحرب القادمة، وهم بهذا يقومون ليس فقط بدفع العدو إلى تعزيز نفسه، بل أولاً وقبل كل شيء تعزيز الجيش الإسرائيلي الذي يجب أن يهزم العدو.
المعلقون العسكريون ذوو النزعات الحربية أعلنوا أن الحرب وشيكة، ربما في الشهر المقبل، وتوقعاتهم الخائفة الغاضبة ستكون مرة أخرى نبوءات تتحقق تلقائياً، وبالطريقة نفسها التي حدثت فيها متواليات مروعة سابقة مصطنعة، يمكننا الآن انتظار مجموعة حوادث «تسخن الجبهة» مثل تفجير نفق أو ورشة صناعية يزعمون أنها لصناعة أسلحة، وربما سيقتل الجيش بعض الفلاحين العزل من الذين يجرؤون على الاقتراب من السياج الأمني، مع محاريثهم الصدئة، بعد تصويرهم على أنهم إرهابيون يحملون متفجرات، والفلسطينيون سيطلقون عدة صواريخ قسام رداً على ذلك، زارعين الرعب في النقب للضغط على الحكومة.
إن كبار الضباط لم يسألوا أنفسهم عن المواجهة مع حماس، ولامتى ستحدث. ولكن بالتأكيد السؤال الوحيد الذي يجب أن يطرح: «لماذا» وليس «هل» أو «متى»، ومن شأن هذا أن يكون مدعاة للضحك لولا ذلك الاكتئاب، حتى السخرية لن تكون بقدر تلك الحقيقة التي تتجدد باستمرار، ولادرس مستفاد منها، ولن توفرعلينا ألف لجنة تحقيق هذه المسيرة الحمقاء، فغزة في السجن ولاتزال هادئة، وقلما تتحدث، ولكنها لن تبقى هادئة إذا لم يرفع الحصار عنها، وإذا لم يسمح لها سجانوها بالعيش بظروف لائقة، هؤلاء الذين يريدون حرباً جديدة لالزوم لها، وسيكون المجرمون في كانون الأول مدعوون إلى المشاركة في جنون هذا الاحتفال الذي يقوده بارونات الحرب والجنرالات والمعلقون على شاشات التلفزة.
وأولئك الذين يرغبون في وقف هذه الحلقة المفرغة هم في موضع ترحيب إذا وجدوا بديلاً: الرفع الفوري للحصار، وإعادة الاعتبار لقطاع غزة وتحرير جلعاد شاليط بدفع الثمن الذي تطلبه حماس، وهو جهد لجعل حماس تشارك في عملية السلام، ومحاولة للتوصل إلى اتفاق ذي مدى طويل معها، وهذا ممكن، ولكن لا أحد يحاول أن يفعل ذلك، ومع ذلك ثمة مشكلة: ماذا سيفعل الجنرالات والمعلقون إذا لاسمح الله بقي الجنوب هادئاً؟.