وانتقل نثار هذا الشرر من نوافذ البيت الأبيض ليقتحم مبنى وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) منذراً الساسة والقادة العسكريين الأميركيين بشتاء قد يكون الأعلى من حيث ارتفاع درجة حرارة أحداثه منذ انزلاق القوات الأميركية بعد أحداث الحادي عشر من أيلول عام 2001 في المستنقعات الأفغانية، وحفر (طالبان) العميقة.
وكيف لايكون الشتاء على تلك الدرجة المخيفة من الغليان وقد اجتمعت جمرات ضخمة لتسعر النار في أتونه، موصلة بركانه إلى حافة الجنون؟!.
الجمرة الأولى وجدت المجال الحيوي لتوهجها في تخبط الإدارة الأميركية في التعامل مع الملف الأفغاني، ومازال الجدال محتدماً بين الساسة والعسكريين الأميركيين حول انتهاج استراتيجية تكون ذات جدوى، بحيث تحفظ القطرات المتبقية من وجه (واشنطن) بعد أن بدا للعالم عجزها الفاضح عن حفظ ماء وجهها الذي انسفح على الجبال والكهوف في (كابول) وغيرها من المدن الأفغانية.
فالقادة العسكريون يلحون في موضوع استقدام قوات إضافية إلى أفغانستان، في الوقت الذي يتشبث فيه الساسة الأميركيون برأيهم القائل إن إرسال هذه القوات يعني زيادة كبيرة في عدد النعوش العائدة إلى الأراضي الأميركية محملة بأشلاء الجنود القتلى في أرض المجهول والفجاءة.
وهذه القوات لاتستطيع تحديد المهمة المطلوب منها إنجازها، ماخلا القيام بحراسة المساحات الصغيرة التي يحاول (حامد كرزاي) إقناع (واشنطن) أنه مازال يبسط السيطرة عليها، في حين تؤكد المعطيات على أرض الواقع أن الهيمنة (الطالبانية) على الأراضي الأفغانية تزداد يوماً بعد يوم، ولم يصب العالم بالدهشة لدى رؤية (طالبان) تستدعي وسائل الإعلام مؤخراً لتريهما كيف سيطرت على قاعدة أميركية سابقة، ترك أصحابها الجمل بماحمل، وكانت حمولته كميات ضخمة من السلاح الأميركي الذي سيزيد من قوة (طالبان)، ويمنحها مداً معنوياً للإغارة على مساحات جديدة من الأراضي الخاضعة لسلطة (كرزاي) لتنضوي تحت لواء (طالبان).
أما الجمرة الثانية فتتمثل بانفراط عقد قوات التحالف في أفغانستان، واشتداد عنف لعبة تبادل التهم بين الأطراف التي تؤلف قوات (إيساف)، إذ يحاول كل طرف رمي الكرة إلى ملعب الآخر ناسباً إليه تهمة العجز عن فعل شيء أمام (طالبان) التي تستفيد من حالة التنافز بين الطرفين كأحسن ماتكون الاستفادة.
لذلك لانستغرب التصريح الصادر عن رئيس الوزراء البريطاني (غوردون براون) بعدم إرسال قوات إضافية من بلاده نظراً لوجود حالة مزرية من الفساد الذي لف أرجله الأخطبوطية على عنق حكومة (كرزاي)، وفي ذلك التصريح مغازلة خفية للأصوات المطالبة بعودة القوات البريطانية إلى بلادها، بعد أن ضاق الرأي العام البريطاني بغوص هذه القوات في الأعماق الأفغانية السحيقة.
وتندفع المستشارة الألمانية (إنجيلا ميركل) بالجمرة الثالثة، بتأكيدها أمام البرلمان الألماني أن المسؤولية يجب أن تؤول في النهاية إلى القوات المحلية، مع التذكير بأن ألمانيا تشارك بأربعة آلاف جندي ضمن قوات النيتو في أفغانستان.
في مثل هذه الأجواء التي يختلط فيها الحابل بالنابل، يغدو أمراً طبيعياً توارد الأخبار عن انتقادات انصبت على رئيس الوزراء البريطاني متهمة إياه بالتقصير في توفير المعدات اللازمة للجنود البريطانيين المنتشرين في أفغانستان.
ويغدو أمراً طبيعياً كذلك تأكيد البيت الأبيض تارة ونفيه تارة أخرى الأخبار التي تتحدث عن اتخاذ الرئيس (أوباما) قراره حول استراتيجيته الحربية في أفغانستان، كل ذلك يغدو متوقعاً لأن الضباب يطوق المشهد الأفغاني من جهاته كلها، ويصبح الرجم بالغيب سيد الموقف. الضباب الكثيف يلقي بكلكله على المشهد الأفغاني، ويصبح البحث عن الحقيقة بحثاً عن إبرة صغيرة وسط كومة قش كبيرة، ولعل الجزء الوحيد الذي يمكن ملاحظته من الحقيقة هوالجزء الذي يشير إلى أن شتاء أفغانستان هذا العام، شتاء مشتعل بلا خمود، وستصلى القوات الموجودة في أفغانستان بلهيبه المؤلم، ولانتجاوز الحقيقة إذا قلنا إنه مرشح هذا العام للاقتراب من درجة الغليان التي لن تبلغ حد التبخر، لأن الغليان سيكون مستمراً أمداً طويلاً.