ولاشك أن هذا النقاش ليس بجديد فهو يعود إلى نهاية التسعينيات من القرن الماضي عندما ارتفعت بعض الأصوات مطالبة بإنهاء مهام هذه المنظمة العسكرية بانتهاء واختفاء مسببات وجودها، غير أن الحلف حاول ايجاد أهداف ومسببات جديدة له في محاولة زحفه نحو أوروبا الشرقية وانتزاع ولاء الدولة الجديدة التي كانت تحت مظلة- حلف وارسو لزمن طويل.
وقد تمادى حلف الناتو في محاولته لتطويق ليس فقط من جهة حدود دوله الغربية بل إنه مضى أيضا ليطوقها من الجنوب وليلامس الحدود الغربية للصين بمحاولة امتداده نحو أوكرانيا وجورجيا وصولاً إلى دول وسط اسيا وهو ما أثار حفيظة الاتحاد السوفييتي، وأيقظ فيه روحاً قومية جديدة، وكاد يصعد من حرب جورجيا عام 2008.
غير أن المحك الرئيسي الدائر هذه الأيام هو حول تفسير المادة الخامسة من معاهدة الحلف وهل تعني هذه المادة أن أفغانستان تمثل تهديداً لأعضاء الحلف يحتم عليهم الاصطفاف خلف الولايات المتحدة في حربها الدائرة هناك .
هذه الحرب التي تتطور يوماً بعد يوم لتضم باكستان إليها وتكاد تتعمق في عنفها وعمقها لتصبح فيتنام ثانية تثير حفيظة الكثير من أعضاء الحلف في القارة الأوروبية، فمع تزايد أعداد القتلى من الجنود ولاسيما الأميركيين في أفغانستان هناك ضغط متزايد من القادة العسكريين في الميدان لإرسال مزيد من الجنود إلى هناك .
فالقائد الأميركي الجنرال ماكرستال يطالب ادارة اوباما بإرسال أربعين ألف جندي إضافي لكسب المعركة ضد مقاتلي- طالبان- غير أنه لم يسمح حتى الآن إلا بإرسال ثلاثة عشر ألفا.
ومع حماسة جزء من الحزب الجمهوري في الولايات المتحدة لإرسال مزيد من القوات فإن جناحاً من الحزب الديمقراطي ورأياً عاماً قوياً في أوروبا يضغطان نحو تخفيف الوجود الأوروبي والأميركي في أفغانستان وتحديد سقف زمني معين لنهاية الحرب إن لم يكن المطالبة بالانسحاب الفوري من ذلك البلد.
وكانت أميركا بدورها قد نجحت في إقناع القادة الأوروبيين بتحديد وجود قواتهم في أفغانستان حتى نهاية فترة الانتخابات الرئاسية الأفغانية والآن بعد انتهاء هذه الانتخابات مع ما حملته من إشكالات عديدة بدأ الرأي العام الأوروبي يضغط من جديد من أجل الانسحاب وقد ظهر أن الولايات المتحدة ستقف وحدها في الميدان الأفغاني ولكن الرأي العام الأميركي بدوره أو نحو 45 بالمئة منه يريد تقليص وجود قوات بلاده في أفغانستان بينما يرى 35 بالمئة منه أن الولايات المتحدة تخسر الحرب في ذلك البلد.
إن جميع هذه الضغوط ناهيك عن الوضع الاقتصادي المتأزم والحرب التي لم تنته بعد في العراق، كل هذه العوامل أجبرت الرئيس أوباما على تقليص الزيادة مؤخراً في عدد الجنود الإضافيين إلى ثلاثة عشر ألفاً. وأوباما يقف هنا في منتصف الطريق بين المتحمسين لزيادة عدد الجنود واولئك الذين يريدون الانسحاب وبالزيادة القليلة هذه فهو يقول إنه مستعد لأن يبقى هناك لفترة طويلة قادمة. ولكن ستقتصر العمليات العسكرية على حماية المدن وحرب النفس الطويلة، فالحرب ضد معاقل طالبان المتوسعة في المناطق الجنوبية والشرقية من البلاد ناهيك عن المناطق الشمالية تتطلب جهدا عسكريا مضاعفاً وهو ما لا تستطيع القوات الأميركية المقاتلة هناك القيام بأعبائه.
وهناك تغيّر نوعي آخر يحدث على الأرض والأغلب أن تتبناه الولايات المتحدة وحلف الأطلسي، فالهدف الرئيس المعلن للحملة العسكرية على أفغانستان كان لتثبيت قواعد الديمقراطية في ذلك البلد، أما اليوم وبعد ما قيل من حدوث تزوير في الانتخابات الرئاسية الأفغانية فإن هدف الحلف من الحرب لم يعد حسب ما طرحه- بريجنسكي في مقال حديث له مرتكزاً على تغيير النظام القائم وإحلال نظام ديمقراطي بديل ، بل سيصبح مرتكزاً على دعم قوات أفغانية حليفة يمكنها أن تساعد بل وأن تحل محل قوات حلف الناتو المقاتلة على المدى الطويل ويقول بريجنسكي: إن الهدف القديم لا يمكن التأكد من تحقيقه في بيئة تقليدية عشائرية أما الهدف الجديد فيمكن تحقيقه وبتكلفة معقولة.
والإشكالية الأخرى لحلف الناتو هي أنه يملك مظلة عسكرية لهيمنة الولايات المتحدة.
وبينما كانت مثل هذه الهيمنة مقبولة ومطلوبة في أوروبا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية ومقبولة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وانتهاء هيمنته في أوروبا الشرقية في عقد التسعينيات فإن مثل هذه الهيمنة لم تعد مقبولة في عصر امتداد الامبراطورية الأميركية عبر البحار وفي بلدان وأمصار بعيدة عن الفضاء الأطلسي.
ولاشك أن هذه الإشكالات بين الحلفاء الأوروبيين والأميركيين ستزداد شقتها بازدياد حدة المعارك على الأرض في أفغانستان ولن يتمكن حلف الناتو من إيجاد رسالة له أو عقيدة جديدة تسمح له بالتواجد والقتال في أماكن عدة خارج القارة الأوروبية ولاسيما أن الإدارة الأميركية الجديدة نفسها غير متحمسة لإثارة الحروب والقلاقل مثلما كانت عليه الإدارة السابقة.
ويتصور بعض منظري الحلف أنه يمكنه خلق صور وظلال له في مناطق عديدة من العالم الثالث تحت أسماء متعددة وقوالب أمنية جديدة وربما ينجح الحلف جزئياً في تحقيق ذلك ولكن القصور الواضح للفهم الثقافي والحضاري للحلف يقف حاجزاً دون إنجاز شيء من هذا القبيل.
وفي النهاية يبدو أن الأفغان بتاريخهم الطويل ومعاناتهم وصراعهم ضد القوى الغازية لبلادهم قد أجبروا الكثيرين بمن فيهم مخططو حلف الناتو على إعادة التفكير في النظر في عقيدتهم العسكرية وأهدافهم الاستراتيجية.